إن فوبيا «خطر التشيع» هي خطوة في التجيش المذهبي كمقدمة لحرب طويلة لا تنتهي في الجسد الإسلامي أعدت في الغرف السوداء الغربية لحرف الأمة قاطبةً عن معركتها العقائدية الأصيلة مع دولة «إسرائيل» الطارئة.
بعد تصدي المقاومة للعدوان الصهيوني على لبنان في تموز 2006 تأسّست مرحلة جديدة في تاريخ الصراع العربي ـ الصهيوني بنيت عليها قواعد جديدة للردع. في تلك الآونة ظهر البون شاسعاً بين سياسات الدول العربية «المعتدلة» وبين جماهير الأمة التي خرجت تهلل للانتصار، وترفع صور المقاومين ورموزهم.
لكن كان ثمة تيار آخر ينمو في الخفاء يعمل كدبيب النمل. يدعمه الحكام العرب والإعلام النفطي يحفر في جسد الأمة ليدخلها تدريجياً في حرب مذهبية لا تبقي ولا تذر. بدا من تعابير هذا التيار وقتذاك وصف المقاومة اللبنانية أنها لم تكن إلا مجموعة مغامرين يجب عليهم وحدهم تحمل العقاب.
ووقف هؤلاء على رأس التلة البعيدة ينتظرون حصائد المعركة متفرجين ومتآمرين آملين بإبادة المقاومة، ومتمنين بتوقٍ لو استكمل العدوان فقضى على الدولة السورية، كونها دولة «طائفية» وليستتبع ذلك بانهيار المحور المقاوم كله.
زود هذا التيار في ما بعد بدعم لوجستي مالي متعاظم لتشكيل قوى على الأرض، تناهض الصعود الطاغي لقوى المقاومة في المنطقة [بحسب تقرير سيمور هيرش 2007]. أخذ العمل على هذا التيار وقتاً استمر أكثر من عشر سنين بحسب متابعتي لنمو هذا الفكر القائم على سيناريو ضرب الأمة الإسلامية وسحق بلدانها في حرب المئة عام بين السنة والشيعة.
كان المخطط البياني لتعبيرات هذا التيار قد تقدّم خلال العقد المنصرم، ومنها التجييش الطائفي والمذهبي بعد سقوط بغداد، وطبيعة الصراع المستجد بين سلطة «شيعية» جاءت على أظهر الدبابات الأميركية ومقاومة «سنية»، وما استتبع ذلك من إعدام الرئيس العراقي صدام حسين صباح عيد الأضحى بتلك الطريقة الهاوية الملتبسة التي جرت تحت العين الأميركية وبمباركتها. كانت المشاهد تُغزل على منوال الوقت ويقوم الإعلام الفضائي النفطي المستحدث بتضخيمها ونسجها في رواية مذهبية تستهوي جهال العرب والمسلمين.
ارتفع الخط البياني أيضاً في ما حدث في لبنان على دفعتين، الأولى: أثناء عدوان 2006 والثانية في الاستعصاء الذي امتد طويلاً بين الحكومة والتيار المقاوم الذي اعتصم في الشارع لإسقاطها، وما آلت إليه من توابع بعد ذلك. كان التضخيم والمبالغة والتضليل من سمات بعض الإعلام في تلك الحقبة الزمنية القريبة، إلا أنه كان شاذاً يُقتصر ببعض الإعلام اللبناني والعراقي الذي جاء مع الاحتلال الأميركي وقناة «العربية». في بداية العقد السابق بدأت جمهور من أبناء منطقتنا بمتابعة برنامج حواري على قناة المستقلة في شهر رمضان لسنوات متتالية عدة.
لماذا لا يخاف في مصر من مئات آلاف الزوار البوذيين أو السياح الإسرائيليين؟!
القناة التي ما زالت تبث من بريطانيا شأن كثير من قنوات الإسلام السياسي المنحدر من عباءة الإخوان المسلمين، كان الغرض من البرنامج بحسب مقدمه التونسي «محمد الهاشمي»، صاحب القناة، هو التقريب بين السنة والشيعة. استضاف مقدم البرنامج ذو الميول السياسية الإسلامية ضيوفاً من المذهبين، وتم الدخول في تفاصيل الخلاف السني ـ الشيعي بدقائقه وحذافيره المستخرجة من الكتب الصفراء القديمة، ومن أفواه بعض الشيوخ المتطرفين. حاز البرنامج متابعة كبيرة حسب علمي، وصارت حلقات النقاش مزاداً مفتوحاً لتزكية التطرف وحفر خنادق التمترس وتهيئةً لساحات القتال المذهبي، لكن ما تمَّ في هذا البرنامج أمرين خطرين:
أولهما: فتح الخلاف السني ـ الشيعي إلى العموم والى سواد الشعب العربي والمسلم، ليرتكب مخالفة قاتلة في فقه مقاصد الحوار بين المذاهب والأديان حسب النظرة الإسلامية الصحيحة التي تطالب بقصر الحوار بين فقهاء المذهبين وأن يتم ذلك ضمن حلقات ضيقة ومناظرات ليست متاحة لعموم المسلمين.
ثانيهما: أن هذا البرنامج كرس «أسوداً للسنة» ومدافعين عن مذهب آل البيت، شخصيات متطرفة تلعب على الغرائز الدينية وتشحن وتبث الإشارات المذهبية والطائفية. ومن المعلوم واقعاً أن أسلوب دغدغة الغرائز الدينية والمذهبية يسقط كل العرب في حبائله إلا من رحم ربي. فتابعتُ كيف يتحول الكثيرون من سماحة بحر الإسلام الواسع إلى ضيق المذاهب والفرق وعبثية الدخول في شبهات التكفير.
سرعان ما حذت قنوات كثيرة طائفية الطابع وفي الجهتين خطى قناة المستقلة، وشاع الخلاف الفقهي والتاريخي وانطلق من السموات المفتوحة إلى العقول المتكاسلة لسواد الطائفيين العرب. بقي الصراع المراد إيقاده في بلاد العرب والمسلمين يخضع لعامل مهم آخر، وهو سياسة المذهب الواقعية.
فكانت الصورة المنطبعة أن الإسلام الشيعي أقوى تأثيراً في الجماهير، وأشد ثباتاً بدعمه للمقاومة ولاستعادة الأراضي المحتلة، بينما اقتصرت صورة الإسلام السني في دول الاعتدال على إسلام الطاعة والحج إلى العتبات المقدسة للبيت الأبيض الأميركي، حيث يستمطر الوحي من مصدره وتستجلب البركات أو يقتصر على الإسلام المضَلَّل الذي تقوده الرغبات الأميركية بعيداً جداً من قبلته الأولى ومقدساته وتدخله في حريق حروب المصالح الكبرى.
استطاع قليل من العُقّال في بلادنا كشف كلمة السر في متاهة هذا الشرخ الجديد الذي يشق الأمة ويمزقها في قرن التجمعات البشرية الكبرى والفضاءات المفتوحة، إذ ثمة «تسيس» للدين ودخول ما يسمى «الإسلام السياسي» واقترابه من مقاليد الحكم والسلطة. وأصبح استخدام المشاعر الدينية طريقاً سهلاً للوصول إلى السلطة لكون السلطة الدينية في بلادنا أقوى السلطات على الإطلاق. اليوم وقد استكلب الإعلام الفتنوي وتأسست له عشرات القنوات الفضائية المتخصصة، وانضمت للركب المفتن طوابير طويلة من المحرضين، أصبحت الجوقة مكتملة الأركان هادرة الصوت تشكل نسقاً طاغياً يتقدم المعارك الدائرة. ويبدو من المستحيل أن ينجو سواد الشعب العربي من الوقوع في براثنه وشراكه المنصوبة بإحكام بعد غزْله الدقيق على عواطف الجموع ببكائيات الظلم، والاستنفار نصرةً للدين.
وهنا تبدو المفارقات متناقضة بغباء لا يمكن تصوره، وهي التي تظهر وهن الأساس الفكري المنطقي لهذه الحرب «المقدسة» بين السنة والشيعة وكذب ما يُدّعى «خطر التشيع» في الدول العربية:
ــ تشيع سوريا: عندما ستذهب إلى سوريا ستجد أن كل سوريا «تشيّعت»، ويكفي أن تدفع بعض المكاتب الإيرانية المنتشرة في عموم سوريا للمواطنين السوريين «السنة» خمسة آلاف ليرة سورية حتى يغيروا «دينهم»!
هذا ما سمعته مراراً حيث كنت أعمل في إحدى دول الخليج العربي، وخُيّل لي من الأحاديث المتواترة أن ساحة سعد الله الجابري في حلب قد غصّت بـ»كولبات» صغيرة كتلك المستعملة في الصرافة مكتوب على مداخلها: «أيها السوري غيّر دينك ومذهبك وانتسب للشيعة واقبض خمسة آلاف ليرة». والحقيقة الصادقة أنه لدى عودتي فيما بعد إلى حلب وجدت في ساحة سعد الله الجابري، معارض صور ومخيمات نُصبت في وسط الساحة للتعريف بانجازات حركة حماس وجمع تبرعات لها من عموم السوريين!
ــ تشيّع مصر: من الممكن أن يفهم المرء خوف بعض المصريين من التشيّع إذا بعثت مصرُ إلى إيران وفوداً علمية للدراسة في جامعات الحوزة الإيرانية في قم وغيرها. وهو الأمر الذي لا تشترطه إيران في تطوير علاقتها مع مصر، لكن أن يكون تخوف شيخ الأزهر و»رئيس اتحاد علماء المسلمين» وكل إسلاميي مصر من الإيرانيين القادمين للسياحة من تشيّع المصريين فهذا لَعَمري أمرٌ عجبٌ عُجاب! إذ يفترض من إيران أن تخاف من إيفاد الزوار والسياح إلى مصر التي أسلمت حتى رقبتها للمذهب السني أن يستعادوا إلى موطنهم وقد غيروا مذهبهم إلى مذهب السنة والجماعة!
لكن ما يطرح من خوف رهيب من خطر «الشيعة والتشيع» مبالغ فيه، ويفترض أن المذهب السني في مصر وغيرها من البلدان مذهب هش ضعيف المتن والأركان، ويكفي لمنتسبيه كي يبدلوه عند مصادفة أول سائح إيراني يزور السيدة زينب في دمشق أو مسجد سيدنا الحسين في القاهرة ملوحاً ببعض النقود.
هل ثمة إهانة لمذهب السنة أعظم من هذا؟ وهل ثمة إهانة وترخيص للمسلمين السنة أكثر من ذلك؟! وهي الإهانات التي أطلقها القرضاوي واجترها وراءه شيخ الأزهر والكثيرون من الركب المطبل المرافق.
«التشيع» واللعب على المشاعر المذهبية والطائفية والتغني بقدسية الفرق هو ورقة الحرب القائمة، لكنها في حقيقتها ورقة ذابلة مفبركة مبالغٌ بتأثيرها بقدر كبير، إذ لن يقدم الآلاف من المتشيعين الجدد - إن وجدوا حقاً - الكثير لمذهب الشيعة ولن ينقصوا الكثير من مذهب تدين به غالبية جموع المسلمين، بخاصة في دول يسود فيها المذهب وحده مثل مصر الخائفة من خطر التشيع والتي تقرع الخطر من الزائرين السياح الإيرانيين.
فلماذا لا يخاف في مصر من مئات آلاف الزائرين البوذيين أو السياح الإسرائيليين اليهود أو حتى الزوار الملاحدة للآثار المصرية من نشر عقائدهم على حساب المذهب السني؟! الحقيقة أنه لم يكن للمذهب الشيعي أن يملك كل هذا الوهج الجماهيري، لو لم تكن سياسته الواقعية أكثر قرباً من أماني الجماهير العربية، خصوصاً في الدول التي ما زالت تعتقد أن المقاومة طريق التحرير واستعادة الحقوق والأراضي السليبة.
وبالتالي فأنا أوافق الرأي القائل أنه لوقف التشيّع و»الخطر الشيعي» في البلدان التي ترتعد خوفاً منه، فيجب على حكامها وعلمائها وشعوبها أن تتبنى المقاومة ضد الخطر الصهيوني والهيمنة الأميركية التي تجتاح المنطقة العربية رغماً عن تطلعات شعوبها المقهورة.
وحريٌ التذكير نهايةً بالبديهية القائلة إن فوبيا «خطر التشيع» هي خطوة في التجيش المذهبي كمقدمة لحرب طويلة لا تنتهي في الجسد الإسلامي أعدت في الغرف السوداء الغربية لحرف الأمة قاطبةً عن معركتها العقائدية الأصيلة مع دولة «إسرائيل» الطارئة.
فهل سيستيقظ ضمير الأمة الجمعي ويكنس هذا الغبار الطائفي والمذهبي لتنقشع هذه الظلمة؟ أم هل ستستكمل الأمة التيه الذي تعيشه منذ قرون وتدخل في أتون هذه الحرب العبثية والجحيم المذهبي والطائفي، لتستعاد أمجاد معارك الجمل وصفين، وتنزلق إلى حيث «يوضع السيف بين المسلمين فلا يرفع إلى يوم القيامة»*، ونرى وأولادنا وأحفادُنا علوَّ بني إسرائيل في أرضنا مرة ومرتين!؟
هوامش:
* قال النبي صلى الله عليه وسلم: إني لا أخاف على أمتي إلا الأئمة المضلين فإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنهم إلى يوم القيامة، «ثوبان وشداد بن أوس عن النبي (ص)، في مسند أحمد».
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه