11-05-2024 09:21 AM بتوقيت القدس المحتلة

الغرب المتخيل: صور الآخر في الفكر العربي الإسلامي الوسيط

الغرب المتخيل: صور الآخر في الفكر العربي الإسلامي الوسيط

إذ لا تزال العلاقة مع الغرب تشكل مأزقـًا كبيرًا للفكر الإسلامي، الأمر الذي ولَّد عددًا من المصطلحات في سياق معالجة هذه القضية الإشكالية من مثل الهوية، والذات، والآخر

غلاف كتاب الغرب المتخيل: صور الآخر في الفكر العربي الإسلامي الوسيط نادراً ما نقرأ كتاباً حول نظرة العرب إلى صورة الأخر الغربي على وجه التحديد، فنحن معتادون بشكل عام على أن نقرأ عن صورة العربي في الثقافة الغربية وحضارتها. هذا الكتاب "الغرب المتخيل : صور الأخر في الفكر العربي الإسلامي الوسيط"، للباحث الأكاديمي محمد نور الدين أفاية، الصادر عن المركز الثقافي العربي، يقدم لنا قراءة شيقة وممتعة ومفيدة إلى أبعد الحدود حول كيف ينظر العربي إلى الغربي، ليس في الصيغة البسيطة للسؤال بل في قلب إشكالية فكرية معقدة تبحث معها كيف يمكن إعادة التفكير في أسئلة الهوية والاختلاف، والذات والأخر، العالم العربي الإسلامي وأوروبا المسيحية، هنا والأن؟..

كيف يمكن القبض عليها في واقعها التاريخي أو في تجذرها الثقافي والتاريخي؟..إذ لا تزال العلاقة مع الغرب تشكل مأزقـًا كبيرًا للفكر الإسلامي، الأمر الذي ولَّد عددًا من المصطلحات في سياق معالجة هذه القضية الإشكالية من مثل الهوية، والذات، والآخر، والإسلام مقابل الغرب. هذه الثنائيات التي انشغل بها الفكر الإسلامي فترة طويلة، في الماضي مع بداية امتداد الحضارة الإسلامية، وجدنا الثقافة العربية الإسلامية حريصة على الإنصات والاستفادة من متغيرات الآخر دون أن يطرح ذلك تحديات تمس الهوية.

الأخر لا يمكن اختزاله :
الكتاب في أبوابه الثلاثة، والذي يتوزع على ثلاثة عشر فصلاً، يبحث في الباب الأول حول مرجعيات النظرة العربية الإسلامية للأخر، وفي الباب الثاني في تكوّن الصور النمطية عن الأخر الظاهرة الصليبية والاندفاعة الجهادية، وفي الباب الثالث يخصص البحث حول معرفة الأخر :حدود والتباسات. فمن خلال الغوص في التراث واستنطاق نصوصه وتحليلها يبحث المؤلف صورة الآخر في الثقافة العربية، إذ لا تخلو ثقافة ما من تمثيل للذات أو للآخر، لأن التمثيل هو الذي يمنح الجماعة صورة ما عن نفسها وعن الآخر. ويهتم المؤلف بالصورة التي اختزنها المختيل العربي الإسلامي نحو الآخر الأوروبي، كما هي مجسدة بالمفاهيم الفكرية، وبمواقف وجدانية وشعورية، وبخزان من الرموز والدلالات المستندة الى مرجعيات دينية وسياسية، ومعرفية، يحفزها الاحتكاك العنيف تارة، والسلمي تارة أخرى، والتي ربطت العرب –المسلمين بأوروبا على امتداد العصر الوسيط، باعتبار اوروبا الآخر دينياً، والمنافس حضارياً، والخصم عسكرياً، والشريك في التجارة.

لا تزال العلاقة بين الغرب والإسلام مأزومةولقد لعـب الإسلام، كدين دوراً حاسماً في تغذية الذاكرة والمخيلة العربية الإسلامية بصورة معيـنـة للآخر، وبطريقة معينة للتعامل معه – من دون إغفال المؤثرات الأخرى الدنيوية والزمنية، والفضول المعرفي –فكان القرآن الكريم بمثابة النص التدشيني الذي قامت عليه الجماعة الإسلامية، وتألفت في كنفه، وحدد للمسلم مواقفه من الآخـر، المخـتـلف عـنه دينياً، وثقافياً، وعين له سلوكه تجاه المختلفين معه.غير أن الثقافة العربية –الإسلامية قدمت معايير وقياسات عدة حكمت من خلالها على ثقافة الآخر، ولونت بها صورته، فهناك اولاً المعيار الديني من خلال الإيمان الإسلامي، ثم المعيار الحضاري، وهو يقاس بمدى العمران عند الآخر، ومعيار بيئي جغرافي، يتعلق بموقع هذه الحضارات في أقاليم الكرة الأرضية، ومدى اقترابها من خط الاستواء الحار، ومن القطب الشمالي البارد، وتأثرها بمدارات النجوم والأفلاك، فضلاً عن العامل المعرفي المرتبط بمدى تقدم معرفتهم بالعالم وحال الشعوب بذلك الحين.

كل هذه العوامل مجتمعة لونت نظرة الثقافة العربية – الإسلامية الى الآخر. وكانت الرحلات العربية –الإسلامية الى بلاد الشرق الأقصى امتزجت بالتجارة والفضول المعرفي، لكن رحلاتهم إلى أوروبا طغى عليها الهم السياسي أولاً. وثمة ما يشير ألى أن العرب لم يستطيعوا أن يكونوا صورة قريبة من الوضوح عن أوروبا إلا في القرن التاسع ميلادي، مع تراكم الترجمات والتعرف الى جغرافيا بطليموس، والجغرافيا اليونانية، وازدياد المشاهدات الشخصية للسفراء والرحالة والتجار، مما مهد لقيام جغرافية عربية يستقي عن تلك المصادر، التي تقف في مقدم الرحلة، معلوماتها المتناثرة عن أوروبا، فظهر أمثال ابن خرداذبة وابن واضح واليعقوبي.لقد برهنت الثقافة العربية على قدرة لافتة على الإنصات للآخرين والانتهال من منجزاتهم الحضارية، منذ أن دشن القرآن الكريم فعل الاعتراف بالآخرين، ضمن مقاييس محددة، كما برهنت الثقافة العربية قدرة على التفاعل مع الآخر من خلال استنبات آليات اشتغال الفكر اليوناني في التربة الفكرية العربية الإسلامية.


الصليبية- المسيحية ودورها في تشويه الإسلام :         
رسم يمثل الحروب الصليبية عن بوابة بيت المقدسوإذا كان الهدف المعلن للصليبيين تجلى في الدعوة إلى استعادة الأماكن المقدسة بالطرق العسكرية، فإنهم، من أجل ذلك، استثمروا كل الوسائل الكفيلة بتكوين متخيل جمعي يعلي من شأن الذات ويقدم الآخر في أشكال انتقاصية، شيطانية، تمنح لكل المنخرطين في الحركة العامة حوافز التعبئة والإيمان بعدوانيته وشراسته، لدرجة يصل فيها المحارب إلى خلق شعور لديه بأنه حين "يحارب ضد المسلمين، فإنه يحارب الظلام قصد إشاعة الأنوار". المسيحية الغربية نسجت هذه "الأسطورة"وهي تعيش داخل "عالم مغلق، تنقصه المعلومات، منكفئ على ذاته كما على معرفته الخاصة. وسواء سمينا هذه العملية التعبوية الكبيرة "إيديولوجيا" أو "دعاية"، أو "حملة إعلامية"…الخ فإن ما يثير الانتباه، عند كل الذين تناولوا الموضوع، هو استعمالهم الكبير لقاموس المتخيل، مثل صورة، مخيلة، إدراك، تخيل، صورة نمطية…الخ الأمر الذي يضعنا، مباشرة، في قلب الإشكالية التي تحركنا منذ البداية.

وهي أن للمتخيل دور حاسم في تشكيل النظرة المتبادلة للآخر، بكل ما يمكن لهذه الملكة الإنسانية الخاصة من إنتاجه من صور وأحكام وخلقه من مشاعر وأحاسيس في سياق الاحتفال بشؤون الذات والانتقاص من صور الغير. فالحضارة لا تقاس بإنتاجها المادي وبإنجازاتها العمرانية والفنية، وإنما تتميز بقدرتها، أيضا، على نحت صور للآخرين التي تربطها معهم علاقات اللاتكافؤ والمنافسة. وليس من قبيل الصدفة أن يتم التأكيد من قبل كبار المفكرين على دور المشاعر في صنع الحضارات، ومن ضمنها المشاعر المستنكرة، نظريا، والمستهجنة، عقليا، ولكنها تفعل فعلها في السلوك والعلاقات والتاريخ.