أذكر كيف حضرت عاشوراء فجأة في حياتنا، بعدما كنا نسمع المجالس الحسينية على أشرطة كاسيت على "المسجلة" في بيوتنا، صرنا ونحن المراهقين والشبان نزحف إلى الحسينيات لنستمع إلى العلماء مشدوهين بحقائق لم تطرق أسماعنا من قبل.
بعيداً عن التحليل الديني للقيم الإنسانية الكبرى التي تحملها ملحمة عاشوراء، يبدو الإمام الحسين الشهيد الأبرز فيها نداً تاريخياً لرموز عالمية أمثال "تشي غيفارا" و"غاندي" ومارتن لوثر كينغ" .. في النصف الأول من القرن العشرين، هؤلاء الذين غيّروا مسار الميدان الفكري والثقافي والسياسي في بلدانهم وحرّروها من الاستعباد والاحتلال والظلم، وحقّقوا لها السيادة الوطنية والعزة في الزمن الذي عاشوه.
ولا يزال هؤلاء الأنموذج الأمثل للشبان ونحن في النصف الأول من القرن الحادي والعشرين. على أن الإمام الحسين، وهو أقدمهم عهداً، منذ 1400 عام تقريباً، لا يزال يؤدي دوراً فاعلاً للغاية في حركة الشبان عموماً، والإسلامية بخاصة.
قد يُشكل علينا قارئ متعصّب للحسين (ع) كيف نقرأ ملحمة عاشوراء في لغة اليسار الفكرية أو السياسية الحديثة، فهي حركة نهضة إسلامية إلهية، وذلك لأن حسابات هذه اللغة وتلك المناهج التي تصطنع العلمية ميزاناً تقيس به مقادير الخسارة والربح لا يمكنها أن تفقه تلك الأسرار، خصوصاً أن مفاعيل ذلك الدم المبذول في كربلاء ليس على عجلةٍ من أمرها فلا بد أن تضيق العلمية ذرعاً بانتظار حدوثها. وتبقى "الإلهية" الصفة الأقوى في قراءة تلك الملحمة التاريخية.
ولكنك لو قاربت الرؤية من الميدان الوقائعي لمراسم إحياء ذكرى عاشوراء في الحقبة التأريخية الأخيرة من القرن العشرين، حيث كانت ما بعد الحداثة الغربية "الأميركية" تواجه انبعاث الإسلام الأصيل وتشككّ في كل مجرياته، سترى إنقلاباً مدويّاً في التفاعل مع هذه الذكرى، ودلالات استقرائها على أرض الواقع وتحويلها فعلاً حياً نابضاً في روح الشبان والشابات.
وأبلغ مثال صادق على قولنا هذا، ما عاشه الشعب الإيراني أبان الثورة الإسلامية التي استمرت خمسة عشر عاماً، قام خلالها الإمام الخميني بعمل جبار في إعادة إحياء القيم الثورية والنهضوية وروح التمرد على الواقع المزري والحاكم المتسلط التي تحملها عاشوراء في نفوس شبان الثورة، والذين كانوا يشكّلون العضد الأكبر من جناحها العريض. ولقد حفل الأدب الإسلامي في إيران المحتفل بالثورة بالشخصيات الروائية التي تستلهم روح العطاء والتضحية في سبيل تغيير الواقع من كربلاء الحسين. وعندما انتصرت الثورة الإيرانية أطلق الإمام الخميني شعاره الخالد "كل ما لدينا من عاشوراء".
إلا إنه في لبنان، قد تبدو الصورة أكثر إشراقاً بالنسبة إلينا لأننا نعايشها مع المقاومة الإسلامية في تعاملها مع إحياء ذكرى عاشوراء، منذ انطلاقتها في أول الثمانينيات من القرن الماضي.
أذكر، وأنا التي كان عمرها اثنتي عشر عاماً آنذاك، كيف حضرت عاشوراء فجأة في حياتنا، بعدما كنا نسمع المجالس الحسينية على أشرطة كاسيت على "المسجلة" في بيوتنا، صرنا ونحن المراهقين والشبان نزحف إلى الجوامع والحسينيات لنستمع إلى العلماء خطباء المنابر مشدوهين بحقائق لم تطرق أسماعنا من قبل. وكان قراراً جماعياً بالانضمام إلى صفوف المقاومة لمحاربة الاحتلال الصهيوني. في المقابل واجهتنا عوائق ومعوقات جمة في مقدمتها بعض الأهل الذين كانوا يتوجسون خيفة من حضور هذه المجالس وما تثيره في الشبان من جهة، وبعضهم كان يرى في المقاومة يومها عملاً قد تكون نتائجه قاسية في تلك الآونة والظروف، من جهة أخرى.
أذكر أني استهلمت روح التمرد من السيدة زينب أخت الإمام الحسين، فحين عرفتُ أنها عالمة وفقهية وقادت الثورة، مع الإمام زين العابدين، بعد استشهاد أخيها إتخذت قراراً لا رجوع عنه يفترض بي إكمال دراستي، ومواجهة محيطي الاجتماعي الذي كان يحّرم عرفياً على الفتاة أن تصل بالعلم إلى أعلى من الصف الخامس ابتدائي وإن حسن حظها فقد تتجاوزه بصفين. وكانت ثورتي وكانت "زينب كربلاء" تقف ماثلة أمامي تمدّني بالصبر والسلوان، وكان دم الحسين أمانة في عنقي بأنه لن يذهب هدراً.. وبعدما كنت رمزاً للفتاة العاصية في العائلة أصبحت عنواناً يحتذى عند كل فتاة..
اليوم، شبان المقاومة، الجيل الشاب، لا يرون في عاشوراء إلا امتداداً لمسيرة الإسلام الأصيل والحضاري، الإسلام الذي يعلّمهم عدم السكوت على حاكم ظالم، وعلى فساد مستشرٍ، اليوم كل ما تنادي به الحركة التسطيحية والتفكيكية لمفاهيم الثقافة الإنسانية الكبرى والعادلة في عصر ما بعد الحداثة، تواجه تحدياً شرساً من محبي الإمام الحسين وأتباع مدرسته الكربلائية، تواجه تقديراً عالياً للمكوّن التاريخي والإنساني الذي أزخم ثقافة عاشوراء بالاستمرار مع العصور، وتواجه تصميماً من فتية لا يؤمنون بتزوير الحقائق بل هم أولئك المجاهدون المجهولون في الأرض المعرفون في السماء ..
علي بركات، فنان شاب مشارك في وضع شعار "لبيك" لعاشوراء هذا العام في مؤسسة "رسالات"، يقول لـموقع المنار إن اهتمامه بذكرى عاشوراء يجدّد عنده روح الاستعداد والجهوزية كل عام أمام تحدي أي نوع من المخاطر خصوصا المتعلقة بالأمة والدين والوطن، وتشحنه بطاقة من الصبر والإرادة، وتعني له أيضاً تجديد البيعة والولاء للخط الرسالي الذي انتهجه الإمام الحسين.
والمجاهد "أبو علي رضا"، أحد أبطال حرب تموز 2006، قال لموقع "المنار" إنه لا يرى في الإمام الحسين غير أنه ذلك الرجل الذي علّمه حب الوطن والدفاع عنه حتى التضحية بالنفس والروح، وعلّمه كيف أن "الكرامة لا تقاس بالأقوال التي تباع لك كل يوم من مجالس دولية ارتهنت لقوى الظلام القوية في العالم بل هي الفعل الذي تحقّقه بقوة الساعد وعزيمة العقل وإصرار الإرادة".
الإمام الحسين، ليس فحسب ذلك المظلوم الذي قتل ذبحاً بقطع الرأس، فتذرف عليه الدموع ويشعر القلب بالأسى، إنه أولاً ذلك الثائر الذي قال فيه غاندي الزعيم الهندوسي الهندي "تعلّمت من الحسين كيف أكون مظلوماً فأنتصر".
هو الإمام الحسين أكبر من القرون وأكبر من الزمن، هو الذي يترّبع في قلب كل جيل جديد يقدم على الحياة الشريفة والكريمة المشوبة بالعزّ والسيادة.