اعتادت النخب العربية خلال قرن مضى، على التذكير مع مناسبة ذكرى وعد بلفور بالحق الفلسطيني، وصار الأمر روتينياً وتقليداً سنوياً يشبه كلّ مناسباتنا الحزينة للتنديد بالوعد
ناصر قنديل
اعتادت النخب العربية خلال قرن مضى، على التذكير مع مناسبة ذكرى وعد بلفور بالحق الفلسطيني، وصار الأمر روتينياً وتقليداً سنوياً يشبه كلّ مناسباتنا الحزينة للتنديد بالوعد والنكبة والنكسة، وتأكيد أننا لن نتخلى عن فلسطين وحقنا المقدس فيها.
قلة من النخب حاولت على موجات متعاقبة فعل شيء، لتحويل القول إلى فعل، الفعل الوحيد الذي تدرك كلّ النخب أنه يعني شيئاً عملياً هو الشروع ببناء قوة مسلحة منظمة لقتال الكيان، والتأسيس لحرب مفتوحة طويلة المدى تستنهض الأمة، بتسمياتها المختلفة، لهذه الحرب المقدسة المديدة والوجودية، والوعي لهذه الحاجة يحتاج إلى النخب، والنخب لما تعي حجم المهمة، وطبيعة ما تستوجبه من تنازل عن تميز الخاصة ونزول ميادين القتال بما فيها، أولاً من فعل يستوي في حسابه الذين يجيدون القول بالذين لا يجيدونه، وقد يتفوّق في إدارته من لا مهارة لهم في علم الكلام، وثانياً ما في المهمة من مخاطر زوال المتاح والمتوافر من نعم الحياة ورفاهها وترفها، وربما الحياة نفسها، تتهيّب ويتردّد أغلبها، ويعود إلى النغمة التقليدية التنديدية، أي فعل الندب والنواح.
حركات المقاومة التي أسّسها لامعون وعباقرة في عالم الفكر، لها وحدها الفضل في بقاء قضية فلسطين حية، من أمثال أنطون سعاده وجورج حبش، وصولاً إلى الإمام موسى الصدر والسيد عباس الموسوي والدكتور فتحي الشقاقي، وكلهم وضعوا حياتهم رهينة لفكرة فلسطين ودفعوا الأثمان الغالية كي لا تكون الأمة في مهانة دائمة لمن يعد بتوزيعها، كالمال السائب، غنائم وسبايا، على قطاع الطرق، وشذاذ الآفاق، فيعطي من لا يملك من لا يستحق.
المشهد يتكرّر اليوم لمن لا ينتبه، أنه عندما استهلك الكيان الذي منح للحركة الصهيونية ليكون معسكراً يُسمّى بدولة يهودية، قدرته على بذل الدم نيابة عن الغرب، ولما بدا أن حركة المقاومة صارت رقماً صعباً في توازنات المنطقة، بدأ تنفيذ وعد آخر، لبلفور آخر، فكيان «داعش» ليس مجرد لاعب لدور شبيه بدور «إسرائيل»، أو أداء شبيه بأدائها فقط.
التمعّن في كيان «داعش» يوصلنا إلى جدية الكلام عن القادة الشيشان الذين درّبتهم وسلّحتهم الاستخبارات البريطانية، خصوصاً ما نشرته «نيوزويك» عن تاريخ أبي عمر الشيشاني «طارخان» و شقيقه «تماز»، ودورهما العميق في إدارة شؤون «داعش» والتخطيط لمشاريع الكيان الناشئ، ومكانتهما لدى الاستخبارات البريطانية، والأميركية، يكتشف بلفور الجديد ويعرف أنّ القضية ببساطة إيجاد كيان بديل لقتال ذات الأعداء الذين فشلت «إسرائيل» في قتالهم.
الأهمّ هو أن الفكرة هي نفسها، وعد إلهي لجماعة تلبس لبوس الدين كعقيدة، والمهمة تجميع عشرات الألوف من المحاربين من أنحاء العالم، ووضع خطة بناء كيان على أرض بلادنا لهذا الشتات، وهذا الكيان الاستيطاني الجديد بين ظهرانينا يستقطب بعضاً من أبناء المنطقة، تماماً كما جرى مع يهود المشرق والتحاقهم بالكيان المغتصِب لفلسطين، والكيان الجديد يهجّر السكان الأصليين وينكل بهم ويمتاز بالدموية والوحشية تماماً كالنسخة الأصلية، «إسرائيل»، ويقتطع من الجغرافيا من بلاد المنطقة حيّزاً حساساً وخطيراً للتحكم بالثروات والممرات الاستراتيجية، واستكمال المنجز من مهمة تقطيع الأوصال.
مقاومة «إسرائيل» الجديدة تستدعي البدء بتسميتها «إسرائيل الجديدة» لأنها شيء آخر غير التقسيم والتفتيت، وعدم الوقوع في فخ الاشتباه، هذا احتلال استيطاني جديد، لا يشبه قيام دولة في جنوب السودان من السكان الأصليين ولا دولة كردية ولا دولة صحراوية، كله خطير لكن الخطر هنا مثلث، احتلال أجنبي، واستيطان أجنبي بعد تهجير السكان الأصليين، والأقلّ أهمية هو التقسيم.
سنستفيق يوماً على كيان سكانه خمسة ملايين من المستوطنين الآتين من أفغانستان والشيشان وكوسوفو وإندونيسيا والصومال، ومعهم خمسة ملايين من المهاجرين من بلادنا إلى الغرب والعائدين إلى دار الخلافة، ومعهم خمسة ملايين من أبناء البلاد المأخوذين بفكر التطرف أو اللاحقين بسطوة القوة، وستكون «إسرائيل الجديدة» كلما تغوّلت وانحرفت عن مسارها تحت مرمى الحرب الطويلة التي بشرنا بها باراك أوباما، لكن الكيان مصمّم للبقاء، لأن لا قدرة لدى الغرب وحلفائه على بذل الدم، و«إسرائيل» تقاعدت، وأصابها ترف الغرب نفسه، والمقاومة باتت تحتاج لاستنزاف قوتها المتنامية عدواً من الجنس نفسه.
الأهمّ للغرب سيكون إعادة تصدير الفائض الخطر الذي تفرزه الهجرة الوافدة من البلاد الإسلامية إلى الغرب، ليصير ثمة شريان هجرة دائم يزوّده الغرب بأسباب البقاء ليحمي أمنه من عائد الهجرة ونتاج التطرف، ويقاتلها هنا في بلادنا، بخراب عمراننا، وتمزيق نسيجنا، وبثرواتنا، وشبابنا.
نحتاج اليوم في ذكرى وعد بلفور إلى مقاومة تضع على جدول أعمالها استئصال «إسرائيل الجديدة» لا مجرّد إقامة توازن رعب معها، فـ«إسرائيل» المترفة جعلتها المقاومة أوهن من خيط العنكبوت، لكن استئصال «إسرائيل الجديدة» وحده سيفكك النسخة الأصلية «إسرائيل».
الطريق إلى فلسطين من الموصل وعرسال والرقة.
http://al-binaa.com/albinaa/?article=19579
موقع المنار غير مسؤول عن النص وهو يعبّر عن وجهة نظر كاتبه