الحسين(ع) كان واعياً للتغيرات والتحولات التي أصابت مجتمع المسلمين وإنسانه.. وأدرك مدى الانحدار الذي وصل إليه
ألقى العلامة السيد علي فضل الله كلمة بعد قراءة المصرع الحسيني في مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات السياسية والدينية والاجتماعية وحشد غفير من المؤمنين، وقال فيها: عندما رفض الإمام الحسين (ع) مبايعة الحاكم الظالم يزيد أطلق قرار النهضة الحسينية.
ورأى سماحته أن هذا القرار ليس موقفا شخصياً مرتبطاً بتلك الحادثة، بل إنّه حكم أخلاقي وإنساني سيظل على مدى الزمن يشهد أن خط الحسين وخط يزيد لا يُمكن أن يلتقيا أو يتقاطعا... لا في المكان ولا في الزمان، ولا أمس ولا اليوم ولا في المستقبل، فهما قطبا مواجهة في الصراع الدائر بين الحق والباطل، وبين الظلم والعدل،وبين المستكبرين والمستضعفين. وما معركة كربلاء سوى تجسيد رسالي وإيماني لهذه المواجهة.
الحسين(ع) كان واعياً للتغيرات والتحولات التي أصابت مجتمع المسلمين وإنسانه.. وأدرك مدى الانحدار الذي وصل إليه ، بحيث باتت الكلمة الطيبة والموعظة الحسنة، وتذكير الناس بحقائق دينهم، بضاعة لا سوق لها في ذلك المجتمع الذي ذلّ وخنع وسكت.
إذاً، يحتاج الأمر إلى زلزال يهزّ كلّ أركان هذا الذل والموت والصمت المطبق على انسان ذلك الزمان ...
فكيف قدّم الحسين نفسه للناس، ومن أي موقع؟
لقد تحدّث إليهم، على امتداد محطات الثورة لإعادة إحياء انتمائهم إلى الإسلام، وإيقاظ فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكَسْرِ حاجز الخوف في النفوس، وهَدْمِ ولاء العصبية القبلية. يعني باختصار كان يجهد الامام لإعادة إحياء القلوب، بينما كان يزيد يعمل على إماتتها، وإقامة روابط أساسها الربح والخسارة، الدرهم أو السوء، الأمن والشبع مقابل الولاء والطاعة...
الحسين لم يكن يطلب الطاعة لنفسه ولشخصه ، بل لخطّه وهدفه، ولم يكن يقدّم لمن كان معه رواتب أو أجور. أصحاب الحسين التحقوا به طمعاً بشيء آخر غير صرر الدنانير، شيئ لا وجود له إلاّ عند الله، وتلك هي حال أهل الحق لا يتاجرون الا مع الله ..
وعندما علم الحسين بانقلاب أهل الكوفة، وتراجعهم عن بيعته، برأيكم ماذا فعل وكان معه في الركب نحو ستة آلاف التحقوا به وجاؤوا معه وهو في الطريق من مكة. لقد فعل ما لا يفعله قائد قط ...
الحسين كان طالِب تغيير ،نعم ، ومن مصلحته أن يكون حوله أنصار وجماهير، لكنّه هو ابن علي (ع) رفض أن يطلب التغيير والثورة عن طريق خداع الناس ( ليس هو القائد الذي يخدع الناس أو يضللهم )، لذلك وقف في أصحابه ومن هم في الركب يبلّغهم بما استجد في الكوفة، ويضع أمامهم الحقائق، ليكونوا على بصيرة من أمرهم، وخيّرهم: من أحبَّ أن ينصرف فلينصرف، ليس عليه منّا ذمام. وهكذا.. تركه من كان يطلب المغانم، وظلّ الأوفياء الخلص الذين شكلوا نماذج راقية وسامية لأهل الحق، قلّما عرفت مثلهم ساحات الوفاء، فقد كان واحدهم يقع صريعاً فلا يكون همّه أين طُعن، أو خطورة إصابته، بل يكون قلبه مشغولاً بأمر آخر. بسلامة الحسين .. أولئك الذين شهد لهم الحسين: "ما رأيت أصحابا خيرا من أصحابي ولا أهل بيت أبر من أهل بيتي"
وفي المقلب الآخر، في معسكر الباطل، كان كلّ رجل يحسب عند كلّ عمل يؤدّيه، كم سيجني من دنانير أو كم سيقرّبه من الأمير. عمر بن سعد كان عالماً في قرارة نفسه أنّه يقف في معسكر التجارة القائمة على الإغراءات، لهذا كان يرى أنّه بحاجة إلى تأكيد وفائه للمهمة التي انتدب إليها، لذلك كان أوّل من أطلق سهماً نحو معسكر الحسين (ع) وهو يقول: "اشهدوا لي عند الأمير...".
لم يكن ابن سعد يختلف عن أي مرتزق آخر في جيش ابن زياد. كلّهم يعيشون محنة الدينار أو المنصب، كلّهم ينطقون بالشهادتين، ويسمّون أنفسهم جنود أمير المؤمنين، ويصلّون، ورغم ذلك لا ينكرون في قرارة أنفسهم أنّ الحسين وأهل بيته هم أهل بيت رسولهم وهو سيد شباب أهل الجنة، والبعض منهم بكى الحسين بعد أن قتله ..أي انفصام وازدواجية أصابت هؤلاء ..واي مرض حل بهم، لا بل وباء؟.
أصلا لم يكن بين الحسين وبين أي واحد من هؤلاء ثأر، أو دم، أو عداوة. فأي حقد أو طمع يمكن أن يدفع برجل مثل ابن سعد إلى أن يأمر مجموعة من الخيالة أن تطأ صدر الحسين وجسده؟ الله أكبر على تلك القسوة والحقد أي محنة هي هذه...
إنّها محنة تدمير إنسانية الإنسان، هذه المحنة صنعتها سنوات وسنوات من الانحرافات، والذل والخنوع والسكوت، وتوَّجها يزيد وامثاله ،بحيث بات الإيمان شيئاً مشوّهاً، ومسخاً ويمكن أن يشبه أي شيء إلاّ الإيمان.
وما أشبه الامس باليوم ...!.
لهذا كان لا بد من عاشوراء ، المسار الطبيعي للإمام ، فهو صوت الحق، وتاريخ الحق، والأمين المؤتمن على متابعة مشروع جدّه رسول الله (ص). ومسؤوليته الشرعية التصدّي لظاهرة تضخم ضلالات أهل الباطل مهما يكن الثمن فادحاً وعاشوراء لم تبق ولن تبقى وحيدة عبر الزمن قد يتغير الاسلوب ولكن يبقى الهدف هو الهدف. لهذا رفع شعاره واضحا : طلب الاصلاح في أمة جده رسول الله. إن الحسين و هو الامام المسدد ، كان يعلم أن طلب الإصلاح هو مسيرة تراكمية طويلة، أراد عليه السلام أن يصب حجر الأساس لها بدمائه الزكية الطاهرة.
والحسين كان يعلم أن السبيل لاستكمال هذه المسيرة هو بايجاد المدى و الصدى الحسين خاطب ووعظ و اصطحب معه النساء و الأطفال كاستراتيجية اعلامية تعي تماما خطورة أن تضيع الجهود والاهداف بغياب الاثر..
فأين نحن من هذه المسيرة التي أرادنا الحسين أن نستكملها و نحن في هذا العصر نرى الإسلام غريبا كغربة الحسين...
إننا نشهد كيف يجتمع في عاشوراء الملايين و الملايين حول العالم يبذلون ساعة أو ساعتين أو أكثر من وقتهم كل يوم و ليلة "إحياء" لذكرى الحسين(ع)، و لكن يبقى السؤال: أين النتيجة.. إلى أين يصل صدى هذه الإحياءات, الحسين كان و لأكثر من مئتي يوم يصل ليله بنهاره في إيصال قضيته واهدافه حتى أنه كان لا يفوّت فرصة لقاء و لو فرد واحد ( هو يعلم أنه قد لا يغير في ميزان القوى العسكرية شيئا، هو أساسا في مقلب سياسي أخر)، ولكنه كان يأمل ان يثمر هذا اللقاء في هداية شخص الى الايمان هو خير عند الله مما طلعت عليه الشمس . كما قالها رسول الله للإمام علي(ع) : لئن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك مما طلعت عليه الشمس.
وهنا تساؤل مشروع ، من وحي حركة الإمام الحسين و سيرته: كم شخص استطعنا أن نجذب إلى قضية الإمام الحسين من خارج دوائرنا؟؟ و هل هذا أصلا هو من أولوياتنا رغم سهولة التواصل و التفاعل في هذا العصر..؟ أم أننا بتنا نعيش على ردات الفعل وتركنا زمام المبادرة بأيدي الآخرين ؟.
وكذلك الامر في دوائرنا الخاصة ، هي دعوة لتشكل عاشوراء فرصة للتعبئة الروحية فهل هناك ما يغسل الروح أكثر من الدموع؟؟ و هي فرصة لاستذكار المأساة,.. و الأهم هي فرصة للتثقيف و سد الثغرات الفكرية و الثقافية ...
إن الإصلاح في أمة رسول الله في حاضرنا لا ينحصر في مواجهة تيار تكفيري مجرم و إن كان له الأولوية لدمويته، و لكننا نشهد وبصمت مخيف بموازاة هذا التيار - و لعله ردة فعل في جزء منه- صعوداً للإلحاد و اللاأدرية بين شبابنا و شاباتنا وهبوطاً في المناعة الاخلاقية، ما يستلزم ثورة ثقافية تشكل حالة طوارئ عمادها سيرة الرسول الصحيحة النقية و في صلبها ملحمة عاشوراء الأخلاقية أولاً و آخراً.
من هنا من منبر الحسين وفي يوم الحسين فلنعاهد الله بأننا :
- سنُسكن الحسين في قلوبِنا ، لتعشق قلوبُنا اللهَ كما عشقَه الحسين..
-وسنُبقي الحسين حياً في عقولنا لنميِّز زيف المضللين والمشوهين والمتاجرين باسم الدين ،( محرمو حلال الله الجدد ومحللو حرامه والمستأثرون بالاموال والمقدرات)
- وسنبقي الحسين حياً في حركتنا لتعرف طريقها لنصرة قضايا الحق والعدل وحفظ كرامة الانسان
- تعالوا نأخذ الحسين في حركتنا أخلاقاّ سياسية ، وتعالوا نأخذ الحسين في حركتنا صدقا وثباتاً وشفافية ، تعالوا نأخذ الحسين في حركته حباً لله وعشقا أبديا .. هذه هي دروس عاشوراء درزس الحسين ...
السلام على الحسين وعلى أصحاب الحسين ............