فشل سعد الحريري الرجل في إقناع ناسه وناس الآخرين بأنّ تجرّعه كأس التمديد ليس من باب الهروب من امتحان الصناديق، بل هو دفاع مستميت عن رئاسة الجمهورية
كلير شكر
فشل سعد الحريري الرجل في إقناع ناسه وناس الآخرين بأنّ تجرّعه كأس التمديد ليس من باب الهروب من امتحان الصناديق، بل هو دفاع مستميت عن رئاسة الجمهورية.
حاول بعض «إعلامييه» تصوير الأمر وكأن الشيخ سعد تصرف على أنه مسيحي أكثر من المسيحيين، لا بل حريص أكثر من أهل البيت على المقام الماروني الأول. وكأنه «يمنن» أبناء مار مارون بخوفه على الكرسي الوثير، بينما هؤلاء يفرّطون بها سعياً وراء صناديق الاقتراع. لكنه طبعاً لم يقنع إلا أصحاب «النفوس الضعيفة» التي تبحث عن «قشّة تبرير» يقيها شرّ الغرق في مستنقع التمديد الوسخ.
كثيرة هي الأدلة الحسية التي ألصقت التهمة بجلد «الحريريين» وترفع عن رؤوسهم تيجان الملائكة التي حاولوا وضعها بدفاعهم عن استحقاق بعبدا ورفعه إلى قمّة الأولويات. بمجرد أن غسل البطريرك بشارة الراعي لسانه من «لوثة التخدير» رغم تأكيد الحريريين أنه فعلها في الجلسة مع «الشيخ»، فقد بات جلياً أنّ «بروباغندا» الخوف على الرئاسة لم تعد لها آذان صاغية.
كما أنّ دفن الانتخابات النيابية في مطمر التمديد الأول حين كانت الرئاسة الأولى لا تزال حيّة ترزق، أضعف من الحجة التي حاول «المستقبليون» التسويق لها. بنظر خصومهم، لو أنهم حريصون على الرئاسة لكانوا جنّبوها غبار الشغور من خلال إعادة إنتاج سلطة برلمانية بمقدروها ممارسة واجبها الانتخابي الرئاسي. لأن ربط التمديد بالحفاظ على مقام الرئاسة لا يقنع أبداً.
بالنتيجة كان صعباً على «الحريريين» الاختباء خلف إصبع الخوف على الرئاسة كي يرذلوا الاستحقاق النيابي ويحيلوه إلى تقاعد جديد لمدة سنتين وسبعة أشهر، تارة بحجة الذرائع الأمنية وطوراً بحجج «ملكية أكثر من الملك».
يعرف أهل البيت الآذاري أكثر من غيرهم أنّ مزايدة سعد الحريري عليهم لا تهضم ولا تبلع. هم أدرى من غيرهم أنّ «تيار المستقبل» لا يكترث لهيبة الرئاسة الأولى ولا إلى مقامها، وأنّ التلطي وراء الكرسي المخمليّ لا يطعم خبزاً في إقناعهم.
يعرف هؤلاء جيداً أنّه لو كان متاحاً لـ«تيار المستقبل» أن يخوض الانتخابات في العام 2013، وفق « سكين قانون الستين» لكان فعلها من دون تردد، ليضبّ الأكثرية النيابية من جديد في جيبه، مع العلم أنّه كان يواجه أزمتين جديتين: التمويل أولاً، ومن ثم مشاركة المغتربين.
لم يكن صعباً حلّ المعضلة الأولى إذا صدر القرار الإقليمي بخوض المعركة، وكان من السهل أن تفتح السعودية أكياس دراهمها لنثرها يمنة ويسرة. لكن المشكلة كانت في استعجال المغتربين للوقوف أمام صناديق الاقتراع المحلية لأنّها عملية تتطلب الكثير من التحضير والمتابعة والوقت، ولا تحصل بعصا سحرية.
ومع أنّ هاتين العقبتين لا تزالان قائمتين، إلا أنّ استشراس سعد الحريري في تحمّل أثقال التمديد على عاتقه من خلال تهديده بمقاطعة الاستحقاق، له أسبابه التي يدركها حلفاؤه جيداً.. والتي تتخطى مسألة «الفلوس».
كانت الساعات المعدودة التي أمضاها «الشيخ» في بيروت كافية ليلمس لمس اليد ماذا حلّ بشعبيته. صور «الزعيم» و«نجل الشهيد» و«ولي الدم» أسقطت أرضاً ورفعت مكانها صور «الخليفة» البغدادي. حصلت تلك الواقعة في أكثر من ساحة بقاعية وزاروب عكاري.
حتى أنّ منسقي «المستقبل» أعلنوا بالفم الملآن أمام قيادتهم وحتى أمام رفاقهم أنّهم غير قادرين على ضبط شارعهم. لا مونة لهم على ناسهم في الكثير من حالات التفلت التنظيمي والشعبي.
طبعاً، هذه ليست آخر الدنيا بالنسبة للتيار، لكن معالجة هذا التآكل البنيوي، تحتاج إلى وقت ومجهود مكثف لاستعادة هذه القواعد وانتشالها من فم «التنين الأسود». فيما التنظيم لا يمتلك راهناً ترف القيام بهذه الورشة كي ينظّم شارعه ويسترده من جديد.
وهو يعي جيداً أنّ وجوده في الحكومة، وفق قاعدة الضرورة التي أباحت له محظور مشاركة «حزب الله» بخبز وملح تمام سلام، يزيد الخناق من حول رقبته ويكبت صوته. فالإحصائيات التي وردته تباعاً قدّمت دليلاً حسياً على أنّ «تيار المستقبل» لم يعد «الممثّل الشرعي والوحيد» للسنّة في لبنان.
وهكذا فإنّ خطاب «الاعتدال» الذي رفعه سعد الحريري بعد معارك طرابلس، قد لا يؤتي ثماره في هذه اللحظة السياسية بالذات. لا بل إنّ الوقوف على حلبة المصارعة النيابية يستدعي شحذ «سكاكين» المنابر، لا تنعيمها.
على دفتر حسابات «14 آذار»، كانت الصورة ملتبسة. بعض من الفريق المسيحي، وتحديداً «القوات»، اجتاحته الثقة الزائدة بالنفس، فوضع النتائج في جيبه، وحاول إقناع حليفه الأزرق بأنّ «قاشوشاً آذارياً» سينهي المعركة لمصلحته.
ويتردد أنّه في اللقاء الأخير الذي جمع فؤاد السنيورة بسمير جعجع، حاول المضيف أن يقنع ضيفه بأنّ السير بالانتخابات ليس مضراً وإنما قد تثمر الصناديق الخشبية عن أكثرية آذارية جديدة، تزيح ميشال عون عن حلبة الرئاسة، لا سيما إذا كسره خصومه في الدوائر المسيحية.
طبعاً، لم يقتنع رئيس الحكومة السابق بهذا السيناريو، لا سيما أنّ ما بين يديه من أرقام واستطلاعات لا تبشّر بهذه الخاتمة الوردية. لا بل على العكس. معظم «المستقبليين» وبعض حلفائهم المسيحيين كانوا يخشون من أن لا تجري رياح الناخبين وفق لوائحهم، وتحديداً في مناطق الاشتباك الصعبة، كزحلة على سبيل المثال، أو الكورة أو حتى الأشرفية.
بتقدير هؤلاء أنّ الخسارة في هذه الدوائر محتملة، لا سيما أنّ الرأي العام المسيحي الموصوف بالمتردد أو الذي لا يدور في فلك الاصطفافات التقليدية، والذي تجتاحه المخاوف من «الفكر الداعشي» وممارساته، قد يصبّ كل غضبه في صناديق الاقتراع على شكل «بطاقات حمراء» ترفع بوجه قوى «14 آذار».
وبالتالي، لا عصفور الإحصاءات في اليد، ولا عصافير شجرة الصناديق مضمونة. لا بل ثمة احتمال بأن تقفز الأكثرية النيابية إلى ضفّة قوى «8 آذار»، وتغيّر كل المعادلة. ولهذا تحوّل التمديد إلى حاجة لـ«تيار المستقبل»، وأكثر من أراده وفرش له الورود.
http://assafir.com/Article/1/383567
موقع المنار غير مسؤول عن النص وهو يعبّر عن وجهة نظر كاتبه