لم يَعُدْ مقبولاً المغامرة بحياة مئات الآلاف من البشر، ولا المجازفة بأرزاقهم وديارهم، لمجرد البحث عن دور أكبر لإقطاع يتراجع، أو لإحساس
د. وفيق ابراهيم
لم يَعُدْ مقبولاً المغامرة بحياة مئات الآلاف من البشر، ولا المجازفة بأرزاقهم وديارهم، لمجرد البحث عن دور أكبر لإقطاع يتراجع، أو لإحساس، اعتقد بموجبه الوزير وليد جنبلاط أنّ في وسعه التحايل على التنّين الإرهابي، كما أوهمته مراكز استشعاره الموصولة بأكثر من مركز دولي وإقليمي.
«جبهة النصرة» شرٌّ قاتل لا يناور ولا يمزح. يفرض على الآخرين «التماثل» الكامل من دون قيد أو شرط، على حدود إلغاء كلّ التمايزات والمميزات التاريخية. والأمر ليس على هذا النسق بين مختلف المذاهب الإسلامية، فهناك تفسيراتٌ مختلفة للدين واجتهادات متعدّدة، لذلك تعتبر التنظيمات الإرهابية وفي مقدّمها «داعش» و«النصرة» حليفة جنبلاط كلاً من المسلمين الأشاعرة والشيعة والزيدية والأباضية والإسماعيلية والدرزية والعلوية، كفاراً يجب إقامة الحدّ عليهم، أي قتلهم من دون سؤال أو استفسار، وهذا ما يفعلونه في سورية والعراق حيث يُقتل الآلاف يومياً.
أيعتقد الوزير جنبلاط مع كامل الاحترام أنه أقرب إلى «النصرة» من عشيرة البونمر العراقية السنية أو عشيرة الشعيطات السورية السنية اللتين سقط منهما آلاف القتلى ذبحاً بسكاكين «داعش» و«النصرة» لمجرد الاختلاف السياسي؟
وتطلق «النصرة» أحكاماً تكفيرية مبرمة في حقّ المسيحيين والهندوس والبراهما والأيزيديين والصابئة والعلمانيين، وكلّ من يتبنى القوانين الوصفية. فما هي إذاً الأسباب التي تفرض على جنبلاط التحالف مع «النصرة» ودعوة الموحدين الدروز إلى محاربة النظام السوري إلى جانب الإرهاب؟
يبدو أنّ الرجل معتاد على انتزاع الدور السياسي وتكبيره في الأزمات الأساسية. هناك براكين تشتعل في المنطقة وأجهزة استشعاره أخبرته أنّ استخدام الإرهاب التكفيري ليس إلا مرحلة عابرة لتدمير الدول والكيانات وإعادة التشكيل الكياني لبلاد الشام والعراق. فاستشعر إمكان توسيع إقطاع آل جنبلاط بشكل أو بآخر أو المحافظة عليه على الأقل.
لم يحسب «البيك» إلا مصلحة إقطاعه التاريخي، متناسياً انتشار الموحدين الدروز في مناطق يهاجمها الإرهاب حالياً ويقتل من أهلها من دون سبب ويتناسى الاختلاف في التفسير الديني للإسلام، وهذا أمر طبيعي عند العاقلين المستنيرّين ومحرّم عند تنظيم «جبهة النصرة» وأمثاله.
ولكي يخفي مآربه الإقطاعية، يبدي جنبلاط حرصاً إعلامياً على دروز الجولان وجبل الشيخ وجبل العرب، معلناً أنّ الجنود الدروز الأسرى عند «النصرة» في أعالي عرسال بخير، كما أخبرته بالطبع وسائل استشعاره، وموزعاً أجهزته الأمنية والسياسية في البقاع الغربي والجبل للدعوة إلى عدم التصدي لـ«النصرة». ولا يصدّق أحدٌ ما يتردّد عن أنّ جنبلاط وعد المتصلين بأجهزة استشعاره بالسماح لـ«النصرة» و«داعش» بحصار مناطق حزب الله في الجنوب والبقاع، لأنّ المحللين يعتقدون أنّ رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي يفصل بين عدائه للنظام السوري وموقفه الإيجابي من حزب الله، على الرغم من أنّ هذا الفصل يندرج في إطار شعوذة سياسية يتقن جنبلاط تقنياتها منذ بدء حياته السياسية. وإذا كان ممكناً الرقص على حبال التفاعلات السياسية الداخلية في لبنان من دون ضرر كبير، فإنّ دور البهلوان على مستوى الإقليم يجعل منه صيداً كبيراً وهدفاً للإرهاب ويضع مجموعات بشرية كبيرة فريسة للإرهاب.
إنّ معاملة التنظيمات التكفيرية للمسلمين الموحدين في جبل العرب وجبل الشيخ وإدلب، لهي أمثلة ساطعة على نظرة التكفيريين إلى الآخر. فقد دمّروا «الخلوات» وقتلوا الرجال، وأعادوا إدخال أهالي إدلب إلى الإسلام، كما زعموا، وأعلنوا أنهم في صدد الزواج من نساء درزيات لأنهن أصبحن مسلمات، ويجوز عليهن ما انطبق على الأيزيديات والمسيحيات المتأسلمات.
وهل يصدّق جنبلاط أنه أقرب إلى «داعش» و«النصرة» من الكرد السنية، وهما يذبحان المئات من الأكراد يومياً؟
ليس للإرهاب حليف ولا صديق، لذلك لا يمكن لتصريحات بسيطة يطلقها الوزير جنبلاط أن تنجح في التحايل على تنظيمات إرهابية تنتشر بطول ستة آلاف كيلومتر، وقد بايعتها تنظيمات في ليبيا ومصر وأفغانستان والفيليبين والجزائر والسعودية.
إنّ خطورة اللعب على الأمن الاجتماعي في هذا الظرف الاستراتيجي الخطير، مرفوضة تماماً من كل الفئات وأولها الموحدون الدروز الذين يعون دقة المرحلة وعدم إمكانية التهور والمراهنة على تنظيمات إرهابية لا تستثني أحداً، وإن كانت تناور مؤقتاً، لكنها سرعان ما تنقضّ على الجميع.
هناك فارق شاسع بين سعي المجتمعات إلى الاستقرار والعيش بكرامة، على أن تحتفظ بتاريخها المشرق ومميزاتها، وبين مصالح زعيم إقطاعي لا يرى في أبناء مناطقه إلا وسائل لتكبير إقطاعه أو المحافظة عليه في الحدّ الأدنى.
وما يثير الدهشة تجاهل جنبلاط لعشرات آلاف المسلحين الأجانب الموجودين في سورية وتدخّل ثمانين دولة، معظمها من أصدقائه مثل واشنطن وأنقرة والرياض وقطر، وهي الدول المسيطرة على أجهزة استشعاره.
المطلوب إذاً منع «النصرة» من تهجير اللبنانيين في حاصبيا وراشيا والبقاع الغربي والجولان وجبل الشيخ وجبل العرب. وهذا لا يكون إلا بالتصدّي للإرهاب والمحافظة على المناطق التاريخية. وهناك إصرار كبير عند أبناء الطائفة الإسلامية الدرزية على الوقوف إلى جانب إخوانهم على أمل أن يقطع جنبلاط خطوط الاستشعار، وألا يستشعر إلا بإصرار أهل الكرامات على صيانة أرضهم وعرضهم وتاريخهم المشرّف.
http://al-binaa.com/albinaa/?article=20461
موقع المنار غير مسؤول عن النص وهو يعبّر عن وجهة نظر كاتبه