21-11-2024 09:46 PM بتوقيت القدس المحتلة

في بلاد الـ"أميش"... حيث يتوقف الزمـن

في بلاد الـ

ثلاثون الفا من الـ"أميش" يعيشون في لانكستر الاميركية، يمارسون طقوسهم الدينية والاجتماعية بعيدا عن اي ضغوط، وحياتهم الريفية بعيدة عن متطلبات العالم الحديث

 

هيام القصيفي

 

ثلاثون الفا من الـ"أميش" يعيشون في لانكستر الاميركية، يمارسون طقوسهم الدينية والاجتماعية بعيدا عن اي ضغوط، وحياتهم الريفية بعيدة عن متطلبات العالم الحديث. قرية الـ"أميش" توقّف فيها الزمن، فحوّلت المنطقة جزءا من تاريخ قديم لا يزال حيا.

منذ ان اطل هاريسون فورد وكيلي ماكغيليس في فيلم "witness"، حتى صارت لبلاد الـ"أميش" صورة في ذاكرتنا وذاكرة كل من احب ماكغيليس بلباسها الاميشي الاسود والقبعة البيضاء. بعد اعوام على ذلك المشهد السينمائي، وعشرات الاعوام على الهجرة من اوروبا، لا تزال هذه المجموعة خارج الزمان، كأنها طالعة من الكتب "القماشية" المصورة التي يخيطونها، او من متحف تاريخي يحفر عميقا في القرن الماضي وما قبله.

لا تشبه الطفلة سيلفيا، النجمة السينمائية، هي العاملة مع اخواتها في مزرعة لانتاج جبنة نوعية، لكنها وهي تستقبل الزوار بثيابها وقبعتها الصغيرة بوجه يفور صحة وفرحا، في برد تشريني قارس، تعيدنا الى السؤال اين نحن؟

في لانكستر الاميركية يوم خارج الزمان والحاضر: مساحات زراعية شاسعة وبيوت متفرقة جميلة ونظيفة، وعائلات لا تزال ترتدي الثياب التقليدية القديمة، معظمها سوداء، الرجال بقبعاتهم القش او السوداء، وهي من طراز واحد، يتنقلون في عربات صغيرة او يحرثون السهول المنبسطة بالاحصنة، والنساء بثياب واسعة ومآزر فوقها وقبعة صغيرة تلف شعرهن. يعملون من كبارهم الى صغارهم في الارض وزراعة القمح والبطاطا والتبغ والخضار ومزارع البقر والماعز، وكأن كل ما يدور حولهم لا يعنيهم من قريب او بعيد. عربات صغيرة تجرها خيول هرمة يشترونها بعد ان تتقاعد من حلبات السباق، وابقار ترعى في سهول مترامية.

ثلاثون الفا من الـ"أميش"، يعيشون حياتهم اليومية وفق ايقاع يمتزج فيه الدين بالتقليد والمبادئ والتعلق بالارض والابتعاد عن الدنيويات والحضارة القريبة منهم او حتى المنتشرة بين منازلهم بفعل وجود من يسمونهم جيرانهم الاميركيين.

حين اتى الأميش المتفرعون من "manoninte" من سويسرا هاربين من الاضطهاد الديني في اوروبا في عام ١٧٢٠ استوطنوا هذه البقعة الاميركية وصاغوا نمط حياة بقي حيا حتى حاضرنا هذا من دون تأثير أي مغريات أو تكنولوجيا.

خصوصيات الأميش دينية وثقافية واجتماعية. في الدين يتبعون الكتاب المقدس بشقيه العهد القديم والجديد، لكن لديهم ايضا بعض الخصوصيات التي يتميزون بها في ممارستهم الشعائر الدينية، فلديهم كتب صلاة وقيم وقواعد تحدد اطر سلوكهم اليومية في ممارسة شعائرهم. ليس هناك كنيسة بالمعنى الفعلي لاقامة الصلوات، بل هناك بيوت خاصة يجتمع فيها نحو مئة وخمسين شخصا وتتنقل الاجتماعات مداورة بين المنازل يوم الاحد مرة كل اسبوعين، يتلون الصلوات باللغة البنسلفانية الالمانية. وهي اللغة التي يتحدث بها الاميش في بيوتهم، اضافة الى الانكليزية التي يتعلمونها في المدارس الخاصة بهم.

تركز الصلوات على مفاهيم الغفران والمسامحة والابتعاد عن الخطايا، وهي تحدد بذلك ايضا قواعد اجتماعية يلتزم بها افراد المجموعة. فالاميش يختارون التزامهم الديني في سن السادسة عشرة حين يتقبلون سر المعمودية. هذا التاريخ هو الحد الفاصل الذي سيجعلهم "أميش" الى الابد، اي ملتزمين دينيا، او سيبعدهم عن المجموعة لصوغ حياة مستقلة خارجها. وبرغم ان ثمة حالات عدة تسجل للخروج من حياة الاميش، بسبب ضغط الحياة، وابتعادها عن الحضارة الاميركية، الا ان نسبتها تبقى قليلة جدا، قياسا الى عدد الملتزمين، وقد تبين أن نسبة سعادة الاميش، بحسب المتصلين بهم، بحياتهم البسيطة تقارب المئة في المئة.

بعد سن السادسة عشرة يتحول الالتزام بالمعمودية ارتباطا دينيا واجتماعيا، ومن يخرج عنه بعد قبوله العماد ينبذ في مجتمعه نبذا كاملا، كما الذي يخرق الوصايا العشر، كالزنا مثلا، الا إذا قرر الاعتراف بخطئه وطلب المغفرة امام الجميع.

بالنسبة الى الرجال الذين يبلغون سن السادسة عشرة، فانهم يطلقون لحاهم من دون الشاربين، اللذين يرفضونهما لانهما يعيدان اليهم صورة الاضطهاد الاوروبي والخدمة العسكرية التي يرفضونها رفضا قاطعا. وهم مثلهم مثل المانونايت، الذين يرفضون خدمة العلم، لكنهم خلال الحرب قد يلتحقون بها لاسباب وطنية وقومية، لكن في مواقع ادارية واجتماعية وصحية لا علاقة لها باطلاق النار.

يتزوج الاميش في غالبيتهم ببعضهم بعضا، ومن يُرِد الزواج بأي شاب او شابة فعلى هؤلاء الالتزام بالاميش، لكن مشكلة الزواج داخل المجموعة تؤدي في بعض الاحيان الى ارتفاع وفيات الاطفال، نتيجة الامراض الناتجة عن زواج الاقارب من الدرجة الثانية بكثرة.

في الارجاء المتنامية، وامام المنازل تمتد حبال الغسيل، والثياب تهتز تحت وطأة رياح باردة، فيما تعمل النساء حول المنزل في تنظيف الاوراق المتساقطة بكثافة من اشجار معمرة اوراقها خمرية وحمراء اللون، تضفي على الارض المفروشة بالاخضر لمسة جمالية مميزة. منزل الاميش مثال عن القيم التي يتعلقون بها وهي الايمان بالله وبالعائلة. لذا هو يتالف من ثلاثة اقسام متدرجة امام بعضها بعضا، القسم الامامي للجدين، والقسم الاوسط للابن البكر، الذي سيهتم بوالديه، ومن ثم القسم الاكبر العائلي لجميع افراد الاسرة. وهي في معظمها اسر كبيرة، لا يقل عدد اولادها عن ثمانية، فيما لسيلفيا مثلا عشرة اخوة.

بين المنازل المنتشرة وسط سهول القمح والذرة انشأت المجموعة مدارس خاصة لا علاقة لها بالمدارس الاميركية العادية. هي عبارة عن غرفة واحدة تعلمهم في ست مراحل فقط اللغة والجغرافيا البسيطة والرياضيات البسيطة. لا تتعدى البرامج التربوية اطار الضروريات التي يحتاجون إليها في حياتهم اليومية. فالاميش لا يذهبون الى الجامعات الا اذا قرروا الخروج من مجتمعهم. يقرأون ويتابعون الصحف والكتب لكنهم لا يشاهدون التلفزيون ولا السينما ولا يسمعون الموسيقى وما من الة موسيقية في منازلهم. اما الهاتف، فله قصة أخرى. أمام المنازل وعلى مقربة من الطريق بيت خشبي صغير فيه الهاتف، والمقصود من ذلك ألا يشغل الحديث الهاتفي افراد الاسرة عن الاهتمام ببعضهم بعضا، والحوار والعمل والصلاة. فالاهل هم الذين يعلمون اطفالهم الكتاب المقدس والتقاليد. ولانهم بعيدون عن التكنولوجيا فقد سبب وصول الهاتف الخلوي مشكلة، كان حلها بيد الاساقفة والكهنة الاربعة الذين "أفتوا" ــ وهي فتوى جديرة بلبنان ــ بتقييد استعماله لاسباب العمل والحاجات الطارئة لكن شرط ابقاء الهاتف في العمل وعدم جلبه الى المنزل، وكذلك ابقاؤه في الجيب اثناء العمل لا اظهاره.

وهناك مشكلة اخرى قيد البحث وهي وصول الهواتف الذكية بسبب وجود الكاميرا فيها، لانهم يبتعدون عن التصوير فلا يصورون حفلات زفافهم ولا يسمحون بتصويرهم.

وللكهرباء حكاية خاصة أيضاً. هم ينتجون الكهرباء محليا اي عبر بطاريات او الطاقة الشمسية او الريح لكنهم لا يستخدمون الشبكة الكهربائية العامة. يستعملون الات الحراثة اليدوية ويرفضون العجلات المطاطية وكل عرباتهم رمادية اللون وتسير بعجلات حديدية. وهناك نوعان من العربات المقفلة التي يجرها الحصان للعائلات، والصغيرة للحاجات اليومية، وهناك عربة خاصة للاحتفالات، وهي طويلة بعض الشيء مخصصة لحفلات الزفاف او المآتم.

شهر تشرين الثاني هو شهر الاعراس في لانكستر، اذ تقام فيه الاعراس فقط ايام الثلثاء والخميس، في منازل العروس التي لا ترتدي ثوبا ابيض، بل مجرد ثوب جديد، ولمدة ثلاث ساعات. يبقى الزوجان في منزل اهل العروس يعملان ويتقبلان الهدايا حتى فصل الربيع، حين ينتقلان الى منزلهما الخاص. ومآدب الغداء والاحتفالات هي نفسها في كل المنازل لمنع المنافسة والمظاهر، حتى وجبة الافطار التي تقدم بعد صلاة الاحد هي نفسها. زبدة الفستق ومخللات وحلوى من التفاح.

لا طلاق عند الاميش، والرجل رأس المرأة والعائلة، لكنّ الرجال يحترمون نساءهم اللواتي يعتدن التأقلم مع المشاكل اليومية، وقبول الواقع والتكيف مع اي مشكلة قد تحصل. تضافرهم العائلي، واهتمامهم بالاكبر سنا، يجعلانهم لا يحتاجون الى التأمين الاجتماعي، ولا يدفعون تاليا الضرائب مثل غيرهم من الاميركيين. حين يحتاجون الى طبيب او مستشفى لا يترددون في الذهاب اليها على ان تساعد الكنيسة المحلية بدفع التكاليف، لكنهم عادة يهتمون بعلاج انفسهم محليا.

في قرية الاميش، متاجر تبيع منتجات اهل القرية، اشغالهم اليدوية الخشبية والقماشية مدهشة بطرافتها وافكارها المبتكرة وبدقة عملها وبروعتها، إضافة الى صناعتهم من الالبان والاجبان والصابون وانواع لا تحصى من الخبز والحلويات والمنتجات الصحية من منتجاتهم اليومية بوصفات المانية لا تزال هي نفسها منذ ان استوطن الأميش لانكستر.


http://www.al-akhbar.com/node/219904

 

موقع المنار غير مسؤول عن النص وهو يعبّر عن وجهة نظر كاتبه