النزاعات على الأراضي مع الكنيسة لا تقتصر على بلدة لاسا. هناك نزاعات اشدّ واقسى في ميفوق- القطارة في جبيل، اذ يدّعي الاهالي ان الدير استولى على اراضيهم وما عليها منذ عام 1914
غادة حداد
النزاعات على الأراضي مع الكنيسة لا تقتصر على بلدة لاسا. هناك نزاعات اشدّ واقسى في ميفوق- القطارة في جبيل، اذ يدّعي الاهالي ان الدير استولى على اراضيهم وما عليها منذ عام 1914 وسجّلها باسمه في مسح اختياري جرى في عام 1938. لم ينصف القضاء الاهالي، فاضطروا الى التفاوض مع الدير وتوصلوا الى صيغة حل لا تعيد إليهم سوى مليوني متر مربع من اصل 12 مليون متر مربع تمثل مجمل اراضي البلدة. هذا الحل لم يوضع موضوع التنفيذ حتى الآن.
بدأت القصّة في عام 1761، عندما قدّم الامير يوسف الشهابي حجة ارض الى الرهبان لبناء دير عليها. يومها لم يكن من بلدة في جبيل تدعى ميفوق- القطارة، ففي الوثائق العثمانية كانت تدعى ايليج، وكانت جزءاً من البترون، وكان هناك برناسا ايضا، التي اندثرت فيما بعد. ظهر اسم القرية في القرن السابع عشر، وكانت تخضع لمقاطعجية آل حمادة. في تلك الفترة، ونتيجة الازمات الاقتصادية والاجتماعية، توسعت ممتلكات الدير، اذ أنشا القيمون عليه تعاونيات زراعية واستهلاكية. وفي الفترة نفسها، اخضع داوود باشا ميفوق لمساحة الدولة العثمانية.
بحسب استاذ التاريخ عصام خليفة، كان الجميع يدفع الميرة للسلطنة، و»ما يقال عن اعفاء الرهبان منها كذب. المسلمون فقط لم يخضعوا للضريبة العثمانية».
الا ان المحامي ميشال متّى لديه قصّة لاستحواذ الدير على اراضي البلدة. ففي 31 اذار 1914، قررت الدولة التركية انشاء طريق تربط قريتي ترتج ولحفد (قضاء جبيل). هذه الطريق تبعد عن ميفوق نحو ساعة سيرًا على الاقدام. أعدّ رئيس الدير عريضة الى الدولة التركية لاعفاء الدير من الضريبة، واقنع الاهالي بتوقيع تلك العريضة التي تفيد بأنهم شركاء في ملكية الاراضي مع ديري ميفوق والقطارة، وبالتالي لا يمتلكون شيئا. وثق الاهالي بنيّتا رئيس الدير، الذي، بحسب متّى، استقدم نحو 120 شخصًا من خارج القرية للتوقيع عن بعض الاهالي لجهلهم القراءة والكتابة. في عام 1938 حصل المسح الاختياري. بحسب متّى، بلغت مساحة اراضي ميفوق نحو 12 مليون متر، الا ان عملية المسح شابتها شكوك كثيرة، اذ حدد رئيس لجنة المساحة تاريخ الثلاثاء في 13 ايلول 1938 للبدء في المسح، فيما اقدم الدير على المسح في 12 ايلول، ووضع تاريخ 13 ايلول على المحاضر. جرى مسح القرية في يوم واحد، ونُظّم 26 محضرا باسم الدير، و13 محضرا لميفوق، و13 محضرا للقطارة. طُلب من المختار شبلي فياض توقيع طلب يفيد بان الدير يريد مسح ما يملك، الا ان الدير لم يُبرز اي مستند يؤكد امتلاكه للاراضي. رفض المختار التوقيع، فاستقدمت الرهبانية عضوا اختياريا دون حصوله على تكليف من القائمقام، ووقع المسح.
دعوى قضائية في 1995
حاول اهالي ميفوق- القطارة استعادة ملكياتهم طيلة 57 عاما، حتى رفع بعضهم دعوى قضائية في عام 1995، لابطال المسح بتهمة التزوير. رُدّت الدعوى بذريعة عدم وجود دليل على تواطؤ بين الرهبان وموظفي المساحة. يقول متّى انه كان احد المحامين الذين رفعوا الدعوى، فاستأنف الحكم، وطلب رئيس المحكمة (حينها) محاضر التحديد والتحرير للتأكد من صحة ما يدعيه الاهالي، الا انه عدّها صحيحة بحجة عدم وجود «تزوير» بل «سهو». يوضح متى ان «للسهو اصولا»، اذ «على الموظف الذي صدر عنه السهو ان يحذف مكان الخطأ وأن يوقّع اسفله بخط احمر. وهذا لم يحصل حينها، وبالتالي السهو باطل». يتذكر المحامي متّى انه التقى القاضي لاحقًا، وقال له «افشلت لنا الدعوى، اما من قاضٍ يحكم ضد الرهبان؟»، فكان رده انه ليس مارونيا، و»لكن هل يستطيع القاضي المسلم ان يحكم ضد الرهبان؟».
ميشال متّى
الدعوى لا تزال في التمييز حتى اليوم، يقول المحامي متّى «قضيتنا محقة، والقانون مع الاهالي لان المسح الاختياري مزور، لكن لن يصدر حكم بسبب نفوذ الرهبان المادي والمعنوي، مع العلم انهم يمتلكون جامعة تدرّس الحقوق وتخرّج محامين وطلابا يغدون قضاة». ويوضح متّى ان الدعوى القضائية تأخّر تقديمها كثيرا لان الخلافات بين الدير والاهالي كانت تحل حبيًا في الماضي، بناءً على وعود الدير، الا ان القيمين على الدير حاولوا في عام 1995 انشاء كسارات، فرفعت دعوى مستعجلة لايقافهم.
تهجير أبناء البلدة
في عام 1940، في عهد رئاسة الاب بطرس زهرا للدير، هُدم 65 منزلا، طُرد اصحابها وهجّروا الى خارج القرية. «لذلك نريد الخرائب قبل المنازل والاراضي، لازالة الجرح من صدور الاهالي. عقلية الرهبان الجدد تطورت، ونأمل خير، غير انني غير متفائل كثيرًا»، يقول متّى.
في عام 1997 حين قدم البابا يوحنا بولس الثاني الى لبنان، وجه إليه الاهالي رسالة شرحوا فيها قضيتهم مع الدير. استلمها ووعدهم خيرا. يشير متّى الى ان الرئيس العام في الدير تعهّد حل النزاع، واعطاء كل ذي حق حقه. «اصبحنا في عام 2014 ولم تحل القضية».
نعوم بشارة معوض، «مهجر من ميفوق» كما يعرّف عن نفسه. لا يعلم في اي عام انتقلت عائلته الى حاقل، فلم يكن قد ولد بعد: «اخبرني والدي ان دركياً صديقه طلب منه مغادرة منزله لانه ملك للدير، ويريدون هدمه، وان لم يفعل فسيأتي حوالى 50 دركيا ويهدمونه على رؤوس سكانه». عدد كبير من سكان ميفوق غادروا حينها وانتقلوا الى البترون وحاقل وجبيل وضبية. لا يهتم معوض للتسوية المفترضة مع الدير، «لا اريد شيئًا منهم، احزن فقط على والدي وعمي، اللذين توفيا مقهورين لتركهما منزليهما. ما يجري هو اجرام بحق ميفوق».
بحسب البلدية، يقارب عدد اهالي ميفوق المسجلين 6000 نسمة، فيما يصل عدد السكان في فصل الصيف الى حدود 500 شخص. في حديث مع الاهالي تسمع روايات مختلفة، منهم من يقول ان الدير حصل على الاراضي عندما لجأ اليه الاهالي هربًا من الضريبة العثمانية، اخرون يقولون انهم اعطوا حجج الاراضي للرهبان مقابل تعليم اطفالهم، لكنّ ايًّا منهم لم يأت على ذكر المسح الاختياري. فكما يجهلون سبب المشكلة، يجهلون ايضا تفاصيل التسوية التي يُعمل عليها اليوم. برغم ذلك يؤكدون المضي فيها، إذ لا حل اخر امامهم. لا يخفون امتعاضهم من الوضع، يقول احدهم: «الراهب عندما يدخل الرهبانية يترك ارضه، ولكنه في ميفوق اخذ ارضي، ولا يريد اعادتها إلي».
المفاوضات مع الدير
بعد خسارتهم في القضاء، لجأ الاهالي منذ عام 1998 الى التفاوض مع الدير (مع الاب توما مهنا). وبحسب مصادر في البلدية، أُلّفت لجنة من اربعة محامين، المختارين، رئيس البلدية، وممثلين عن الدير. استمرت المفاوضات من عام 1998 الى عام 2009. اتفق على صيغة حل. رفعت هذه الصيغة الى المجمع العام للرهبانية، الذي بدوره ناقش القضية. يشرح مصدر مطّلع ان اي قرار ليصبح نافذا يجب أن يناقش في مجمع للدير، يجتمع الرهبان ويتخذون القرار، يرفعونه الى الرئاسة العامة لتوافق عليه، يرسل الى بكركي ومنها الى روما لتوافق عليه، وتعيده الى السفارة البابوية، ومنها الى بكركي، ليعود الى الدير. تأخر ارسال القرار الى روما من عام 2009 الى عام 2012، فيما المفاوضات استغرقت 10 سنوات.
التسوية التي يُعمل عليها اليوم برعاية الفاتيكان، تنص على ان يُسجل الدير المنازل التي يقطنها السكان باسمائهم، اضافةً الى ارض بمساحة 2000 متر لكل منزل، فيما تقسّم الاراضي الباقية الى عقارات، لتباع باسعار مشجعة للشباب البالغين. «هنا وقعنا امام اشكاليتين» يقول مصدر في البلدية، فالدير يطالب بتسديد سعر معين للارض، فيما الاهالي يريدون استرداد املاكهم من دون مقابل. ليس هذا فحسب، بل ان السعر الذي طالب به الدير في المفاوضات ارتفع الآن، وبات الدير يطالب برفع السعر. امّا الاشكالية الثانية، فتكمن في ارتفاع عدد الشبان البالغين، فاثناء المفاوضات كان عدد الشبان فوق 18 عامًا يبلغ نحو 650 شابا، اصبح عددهم اليوم نحو 850 شابا، وإضافة الى هاتين الاشكاليتين، فان الاهالي يشعرون بالغبن، اذ ان هذه الصيغة لا تعيد اليهم سوى مليوني متر مربع، من اصل 12 مليون متر مربع تعود للبلدة. وتشترط هذه الصيغة عدم بيع الاراضي لغير اهالي ميفوق.
يرى احد المحامين المفاوضين، ايلي الحشاش، «ان هذا الحل مجحف، لكن علينا ان نكون جريئين لنصل الى حل، فالعدالة في لبنان نهاية ظلم لا بداية حق، فاي حل وفاقي اسرع من اي دعوى قضائية»، فيما المحامي ميشال متّى يقول «قد لا يكون بالامكان افضل من هذا الحل».
رئيس دير الرهبانية المارونية اللبنانية في ميفوق الياس العنداري رفض التحدث في الموضوع. قال انهم باتوا على قاب قوسين من الاتفاق مع الاهالي، محاولاً معرفة الجهة التي تسعى لاثارة القضية اعلاميًا. مختار القطارة كمال الحشاش رفض بدوره الحديث، مشيرًا إلى ان القضية باتت منتهية وهناك اتفاق قريب مع الدير.
http://www.al-akhbar.com/node/219993
موقع المنار غير مسؤول عن النص وهو يعبّر عن وجهة نظر كاتبه