رسائل متعددة الاتجاهات وصلت مع عملية القدس يوم أمس. الأولى إلى الاحتلال، وفيها أن كل الإجراءات القمعية لم توقف عزم المقدسيين على الرد.
علي حيدر
رسائل متعددة الاتجاهات وصلت مع عملية القدس يوم أمس. الأولى إلى الاحتلال، وفيها أن كل الإجراءات القمعية لم توقف عزم المقدسيين على الرد. وأخرى للسلطة مفادها أن القدس التي تقع خارج رهاناتها صارت تعرف كيف ترد عن نفسها الظلم، وليس أخيراً إلى المحيط العربي الذي تاهت بوصلته.
لا تقتصر نتائج عملية القدس التي جرت يوم أمس على الأبعاد الأمنية والعسكرية، أو حتى عدد القتلى والجرحى الإسرائيليين، بل تجاوزتها إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، إذ أحدث نجاح العملية ونتائجها صدمة في الواقع الإسرائيلي السياسي والاجتماعي. فأولاً كان لموقع تنفيذ العملية وأسلوبها وتوقيتها دويّ كبير ترك ظلاله على كل السياسات والمعادلات التي حاول صانع القرار السياسي والأمني في تل أبيب فرضها على الواقع الفلسطيني عموماً، وفي القدس خاصة.
ورغم أن عملية القدس تأتي امتداداً لخيار شعبي في التعبير عن رفض الاحتلال وسياساته، فإنها اتسمت بعدد من المزايا التي أضفت عليها أبعاداً أمنية خاصة، فهي شكلت ضربة قاسية للأجهزة الأمنية الإسرائيلية عامة، و«الشاباك» خاصة، لأنها أجهضت كل الإجراءات الوقائية التي يفترض أن «الشاباك» أقدم عليها منذ إعدام المستوطنين الفتى الفلسطيني محمد خضير وحرقه في تموز الماضي، وهي فعلياً كانت المحطة الفاصلة في الحراك الشعبي الجاري والعمليات الفردية الأخيرة.
العملية كشفت عن تصميم فلسطيني للدفاع عن الأرض والمقدسات، رغم تواضع الإمكانات، والطوق الإقليمي الكبير، كما أظهرت تقدماً في مستوى التخطيط والدقة في التنفيذ مع أنه جهد فردي. كل ذلك ظهر في أصل اختيار مكان العملية وأسلوبها وطبيعة الهدف، وهو ما أثبت قدرة المقاومة الشعبية على مفاجأة العدو في الوقت والتفاصيل الأخرى، ولا سيما أن هذا النوع من العمليات يتسم باللامركزية، فهي تقتصر على منفذ واحد أو أكثر، الأمر الذي يضيق على إسرائيل قدرتها على الكشف المسبق.
واللافت أن سياق العملية يرد على كل الحديث الإسرائيلي عن «ربح المعركة ضد الإرهاب»، وهو يؤكد أن سياسة تدفيع الثمن التي تعتمدها حكومة بنيامين نتنياهو لم تنجح في ردع الشبان الفلسطينيين عن خيار المقاومة. فرغم كل الإجراءات بتدمير المنازل واعتقال الأهل، أتت هذه العملية. ومن أبرز ما انطوت عليه الشجاعة التي تمتع بها الشهيدان المنفذان، مع إدراكهما الثمن الذي ستدفعه العائلة، ويبدو أنه أمر ستتوقف عنده الأجهزة المتخصصة لدى العدو، وسيكون على طاولة البحث تقدير جدوى السياسات المتبعة، رغم أن خيارات قيادة العدو محدودة، ما يعني أنها ستعتمد بدلاً من الخيار الفاشل المزيد منه.
من هنا، يمكن القول إن عملية أمس أسقطت الأوهام التي تراود شرائح واسعة من الإسرائيليين وتروج لنظرية أن بالإمكان مواصلة سياسة الاستيطان وتنفيذ الاعتداءات على المقدسات، وتحديداً الأقصى، وفي الوقت نفسه التمتع بالأمن الشخصي المستند إلى الشعور بفائض القوة لدى إسرائيل. أيضاً ضربت العملية نجاح فكرة السيف المصلت على فلسطينيي الداخل خاصة، وكانت تهدف تلك السياسة إلى زرع الخوف والقلق في نفوس الفلسطينيين من أن أي تحرك لهم سيواجه بردود قاسية ومؤلمة.
كذلك أعادت العملية التشديد على خطأ ما يقال في إسرائيل حول أن الظرف الإقليمي العربي الحالي فرصة تاريخية للانقضاض على ما تبقى من فلسطين ومقدساتها، وفي طريقها أسقطت أهداف اجتماع «عمان الثلاثي» الذي جمع نتنياهو وجون كيري وعبد الله الثاني، وكان يهدف إلى احتواء الحراك الفلسطيني بعدما تفاقم في مواجهة سياسات الاحتلال.
هي رسالة متعددة الأبعاد وصلت إلى جمهور العدو وقياداته، وأكدت أن خيار المقاومة الذي يتبناه الشعب الفلسطيني عصيّ على الاحتواء، كما كانت رسالة إلى الشعب الفلسطيني وقياداته، ومهرت بالدم لتقول إنه يجب تصويب البوصلة، وليس أخيراً تذكير المحيط العربي بأولوية مواجهة احتلال فلسطين.
على المستوى السياسي الداخلي، أعادت عملية القدس خلط الأوراق السياسية في إسرائيل. فبعدما كانت التجاذبات الداخلية تتمحور حول قضيتي الميزانية وقانون القومية اليهودية، ووصلت إلى حد تهديد استقرار الحكومة وبقائها، أتت هذه العملية لدفع العامل الأمني إلى الواجهة من جديد. وبات الشعور بالقلق على الأمن الشخصي للإسرائيليين هو الطاغي على مستوى الجمهور، والمهيمن في الخطاب السياسي.
على ضوء ذلك، جرى تعزيز قوات الشرطة في المدن المحتلة ورفع درجة استنفار الشرطة إلى المستوى الثالث، كما بدأت دراسة إدخال تسهيلات على أنظمة حمل السلاح للإسرائيليين من أجل حمايتهم من أي هجمات. وهكذا يستعيد العنصر الأمني صدارته السياسية والإعلامية، لكن من البوابة الأكثر أذية لنتنياهو وطاقمه، لأن ما سيفاقم أزمتهم أن اليمين المتشدد سيستغل العملية للانقضاض على نتنياهو تحت شعار اتهامه بالتهاون وترك سياسة العصا الغليظة مقابل الفلسطينيين. وقد لا يكون مفاجئاً أن يلجأ قادة الأحزاب السياسية الإسرائيلية إلى محاولة تحقيق المزيد من المكاسب على حساب الدماء الإسرائيلية، وهو سيناريو له سوابقه الكثيرة في التاريخ الإسرائيلي.
من جهة أخرى، لن يفوِّت نتنياهو هذه الفرصة لتثميرها على المستوى السياسي، وتحديداً ما يتصل بعملية التسوية مقابل الضغوط الأميركية والأوروبية التي تحاول دفعه إلى مفاوضات أو اتفاق شامل، ووفق هذا المنطق سيكثر رئيس وزراء العدو الحديث عن أن هذه العملية وما يشابهها، تؤكد المطلب الإسرائيلي بضرورة ترتيبات أمنية مجدية في حال إقامة دولة فلسطينية، وهو شعار يرفعه لتبرير مطلبه الاحتفاظ بقوات للجيش في منطقة غور الأردن، إضافة إلى إجراءات و«حقوق» أمنية أخرى. تبقى مسألة يجب تسجيلها وهي أن الإسرائيلي سيستغل أسلوب تنفيذ العملية في ضوء الحملة العالمية على الإرهاب لوسم المقاومة الفلسطينية بالإرهابية.
http://www.al-akhbar.com/node/220073
موقع المنار غير مسؤول عن النص وهو يعبّر عن وجهة نظر كاتبه