صل صفاقة وسائل الإعلام الغربية اليوم لمستوى منقطع النظير، حينما تتجاهل بصورةٍ سافرة حادثة قتل الشاب الفلسطيني خير الدين حمدان بدمٍ بارد، عندما حاول منع سيارة الشرطة من اعتقال شابٍ في قريته
مع العملية الفلسطينية التي نفذها غسان وعدي أبو جمل على الكنيس اليهودي في القدس المحتلّة، وجدت وسائل الإعلام العالميّة كلّ ما تحتاج اليه لبناء قصّة مؤثّرة ومخيفة، تختصر الصراع العربي الفلسطيني لمصلحة الرواية الإسرائيليَّة. تتضمن الحكاية «مؤمنين مسالمين»، يتلون صلوات الصباح في كنيس هادئ، وفأساً.
في العادة، حين تهز الرأي العام عمليّة مشابهة، تلجأ وسائل الإعلام لتبيان سلسلة الأحداث والتداعيات التي مهّدت للحدث أو سببته. لكن، لم تكن هذه الحال بالنسبة لمستجدات عملية القدس، والتي أريد لها أن تبدو مجرّدة، ارتكبها «قَتَلة بالفطرة».
بدت لغة الإعلام مشابهة للغة السياسيين ذاتها، مشوبة بالحقد والكراهية: بنيامين نتانياهو يصف منفذي العملية «بالحيوانات المجرمة»، وجون كيري يعتبر ما حدث «إرهاباً محضاً». انعكس ذلك على اللغة المستخدمة في وسائل الإعلام، والتي استقت مصطلحاتها من أفعال القتل والذبح والدماء لإكمال الصورة المرادة للفلسطينيين في أذهان الجمهور الغربي.
أجرت «بي بي سي» لقاءات مع إسرائيليين جاءوا كي يصلّوا بسلام، قبل أن يسمعوا أصوات إطلاق النار. وصورت في تقرير بعنوان «مشهد فوضوي بعد هجومٍ على كنيس في القدس» (18/11)، سيارات الإسعاف والشرطة والمروحيّات، ما يشي بدرجة الاستنفار العالية.
كذلك تلقّت «بي بي سي» اتصالاً من أحد الضباط الإسرائيليين، كي يسرد تفاصيل الحادثة. في المقابل، بدت حجّة ممثل «حماس» غازي حامد على القناة ضعيفةً، وهو يحاول عبثاً التذكير بما يرتكبه الاحتلال من فظائع كل يوم، خصوصاً حين اختصرت المذيعة القضية كلها بسؤال: «هل تبرّر هذا الهجوم؟». وعندما لم يأتِ الردّ قاطعاً بالنفي، فقد الضيف أيّ فرصة لإيصال رأيه إلى الجمهور.
تتبعت وسائل الإعلام الأميركية خيط الدم الذي خلّفه سحب القتلى على البلاط الأبيض، وصوّرت بقع الدماء على الطاولات والكراسي. استضافت «فوكس نيوز» السفير السابق لأميركا في الأمم المتحدة جون بولتن، فتحدّث عن دور «حماس» في القضية ودلالات مهاجمة «حي سكنيّ» من قبل الإرهابيين، في رسالة مفادها أن لا أحد آمنا. يؤكد بولتن، أنه بعد تلك الهجمات، أصبحت فرص الوصول إلى تفاوض بين الإسرائيليين والفلسطينيين أقرب إلى الصفر.
هنا يعلّق مذيع «فوكس نيوز»: «فأس ومسدس!»، مختصراً مفهوم الفلسطينيين للحل. ويضيف المذيع: «إسرائيل نجحت في السنوات الماضية بمنع دخول الانتحاريين القادرين على تنفيذ عمليات تفجيرية، ولذلك يعود هؤلاء اليوم إلى الفأس بما يحويه ذلك من وحشية، لأن أساليبهم الإرهابية الأخرى في القتل لم تعد متاحة».
هنا يضيء بولتن على صعود «داعش» وحادثة طعن بريطاني في شوارع لندن باعتبارهما مقدمتين لهذه الهجمات التي «لوّثت أيدي الإرهابيين الفلسطينيين حرفياً بالدماء»، بحسب وصفه. إذاً وتبعاً لما تراه «فوكس نيوز»: تنامي المدّ الإرهابي هو المسبب في هذا النوع من العمليات، وليس، لا سمح الله، الجرائم التي ارتكبها المستوطنون خلال الأسابيع الماضية، ولا الجرائم التي تواصل «إسرائيل» ارتكابها منذ عقود.
من جهتها، عرضت «سي أن أن» تقريراً لتشلسي ج. كارتر وبن ويدمان (19/11)، يبدأ بصورة حاخام مرتعد الجسد، يتلو صلواته بصوت مرتفع في الشارع، لتعرض بعد ذلك مشاهد من جنازة القتلى. حاول تقرير «سي أن أن» الغرق في التفاصيل، ليصف معدّ التقرير بلغة أدبية الدماء التي لوثّت الكتب المقدسة وجدران المعبد.
على المقلب الآخر، صوّر التقرير احتفالات الجانب الفلسطيني بالعملية. أظهر شباناً ملثّمين يحملون الفؤوس في الشارع، بينما ترفع خلفهم صور غسان وعدي أبو جمل، وتظهر النساء الفلسطينيات وهن يوزّعن الحلوى.
كل ذلك يؤكد ما تنبأ به بعض المحللين عن دخول الإعلام الأميركي حقبةً جديدة، يتخلى فيها عن لقطاته الباردة، التي تراعي رهافة مشاعر جمهوره، لمصلحة مشاهد دموية وقاسية لا تختلف عما قدمه الإعلام العربي أثناء تغطية أحداث المنطقة. مع فارق بسيط، هو أن الصورة يجب أن تكرس هوية جديدة للفلسطينيين بوصفهم مجرمين إرهابيين.
لم يقتصر نهج اقتطاع الحادثة عن سياقها، على التجاهل التام لممارسات «إسرائيل» الهمجية، واقتحام يمينيين المسجد الأقصى الأسبوع الماضي، بل غابت كذلك أي إشارة للحاخام البارز موشيه طبرنسكي رئيس المدرسة الدينية «توراة موسى»، والذي كان أحد المستهدفين في العملية. كما غابت الإشارة لكون حي هارنوف يضمّ الكثير من أعضاء حزب «شاس» اليميني، وهي تفاصيل كانت لو ذكرت ستغير الصورة عن العملية بوصفها «إجراميةً عشوائية».
تصل صفاقة وسائل الإعلام الغربية اليوم لمستوى منقطع النظير، حينما تتجاهل بصورةٍ سافرة حادثة قتل الشاب الفلسطيني خير الدين حمدان بدمٍ بارد، عندما حاول منع سيارة الشرطة من اعتقال شابٍ في قريته.. أو حادثة شنق مواطن فلسطيني آخر من قبل مستوطنين «مسالمين». تلك لم تكن أفعالاً إجرامية تستحق الإدانة، ولا تكون بحالٍ من الأحوال سبباً من أسباب الاحتقان الكثيرة التي قد تدفع شابين في مقتبل العمر للتضحية بحياتيهما.
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه