بقي الدفاع الأوروبي المشترك حبراً على ورق. لا فرار من الاعتراف بذلك
وسيم ابراهيم
إذا طرح على الزعماء الأوروبيين هذا السؤال البسيط: «هل يمكن القبول، في عالم اليوم، بإقامة بناء من دون تجهيزات الوقاية من الحريق؟» قد تتفاوت ردود فعلهم، لكنهم لن يتمكنوا من الرد إلا بالركون للغة المنطق: «إن هذا مستحيل اليوم».
مع ذلك، تتلاشى هذه الإجابة العفوية، ليحلّ اللف والدوران، كلما سئل الأوروبيون عن «النقص» الذي يعانونه في مجال القدرات الدفاعية والأمنية. الخبراء يقولون إن وصفه بـ»النقص» هو «استهانة ليست في مكانها»، «مكياج» سياسي، فيما الأمانة للواقع تسميه: «عجز دفاعي».
هذا النقاش يعود اليوم بزخم وسط تفاقم الصراعات المحيطة بالقارة العجوز. من الجنوب، هناك حرائق مشتعلة على طول الجوار العربي، في حروب لا يعرف أحد متى وكيف وعلى ماذا ستخمد. من الشرق، تتواصل فصول الحرب بين حكومة أوكرانيا والانفصاليين، بعد تصادم المصالح بين الأوروبيين وروسيا، التي تردّ بمواصلة استعراض قوتها العسكرية.
لكن «العجز» موجود قبل الصراعات. يشير إليه خبراء بالتذكير بأن الاتحاد الأوروبي، أكبر قوة اقتصادية في العالم، يعيش عملياً من التجارة، في حين أن 90 في المئة من صادراته تذهب عبر البحر. يتساءلون كيف يمكن لـ»أكبر تاجر دولي» ألا يمتلك الوسائل العسكرية التي تضمن أمن طرق التجارة.
وسط ذلك، تصطدم دول الاتحاد اليوم بواقع تأخرها العسكري، قياساً بما يفرضه الحفاظ على أمنها وازدهارها. قال سياسيون أوروبيون صراحة على المنابر إن العالم يتغير، وأن أوروبا كانت تظن بأن الأزمات يمكن أن تحلها قوات حفظ السلام.
أحد من أكدوا هذه المسألة هو بوغدان كليتش، وزير الدفاع البولندي السابق (2007 – 2011)، وهو الآن عضو مجلس الشيوخ. يقول خلال حديث لـ»السفير» إن «هنالك تعارضاً بين واقع قدرات أوروبا العسكرية وبين مسؤوليتها المتزايدة بالنسبة لأمنها وللاستقرار في جوارها. هنالك تهديدات جدية. لدينا روسيا في الشرق وداعش في العراق وسوريا». لكن تعارضاً كهذا، لم يعد ممكناً استمراره، كما يقول، فـ»هذين التهديدين يجعلان أوروبا مجبرة على بناء قدرات دفاعية، في حين أنها لا تزال تعيش في الحقبة المسالمة» التي سادت بعد انتهاء الحرب الباردة. أهم مؤشرات العجز هو ضعف الإنفاق على القطاع العسكري. المعيار الأساسي لذلك هو ما حدده «حلف شمال الأطلسي»، الذي يطالب أعضاءه بأن يصرفوا اثنين في المئة من ناتجهم الإجمالي، كحد أدنى، على بناء قدراته العسكرية. من بين أعضائه الثمانية والعشرين، هناك 23 دولة من التكتل الأوروبي، ليس بينها سوى فرنسا وبريطانيا تلتزم بهذه النسبة. حتى ألمانيا لم تلتزم بذلك، على مدار سنوات رخائها، وأنفقت العام الماضي فقط 1.4 في المئة من ناتجها.
وتبدو حالة «الضرورة» واضحة في عودة النقاش الأوروبي المتحمس لبناء قدرات عسكرية مشتركة. على الورق، يمتلك الأوروبيون آلية «السياسة الدفاعية والأمنية المشتركة»، لكن ما حققته على أرض الواقع يبدو متواضعاً قياساً بهيبة التسمية. قمة هذا المشروع المشترك جاءت عبر إنشاء «وكالة الدفاع الأوروبية»، التي تحتفل هذه السنة بعيد ميلادها العاشر. مع ذلك، لا تتعدى حدود التفويض الذي تعمل بموجبه دعم الدول لتطوير صناعاتها العسكرية، كما تقدم مساعدة فنية لمهمات عسكرية أوروبية مشتركة.
بكلمات أوضح، بقي الدفاع الأوروبي المشترك حبراً على ورق. لا فرار من الاعتراف بذلك، كما يؤكد إيف بواييه، البروفسور في المعهد الوطني الفرنسي للدراسات العليا «ايكول بوليتكنيك». يدرّس بواييه الشؤون الأمنية الدولية في المعهد المرموق، وكان ترأس عدداً من مجموعات العمل لـ»مجلس العلوم الدفاعية» في وزارة الدفاع الفرنسية، أبرزها حول مستقبل صناعة الدفاع الأوروبية وكيفية تحسين وتنمية التعاون العسكري.
ينظر بواييه بشك إلى الدعوات التي تقول أن أزمة أوكرانيا هي «نداء استيقاظ» لأوروبا. في حديث لـ»السفير»، يعتبر أن «العديد من الدول الأوروبية ليس لديها أي إستراتيجية عسكرية»، موضحاً أنه «مهما كان الظرف، فإن معظم الدول فقدت إدراك قضية القوة العسكرية اليوم، وهذا أمر لا يتعلق بأزمة أوكرانيا». انعدام الإستراتيجية يرصده البروفسور بالقول: «عليك تطوير نظام شامل مع تكنولوجيا فائقة، هيكلية مشتركة ممتازة وغير ذلك. معظم الدول الأوروبية تنفق أقل من ثلاثة مليارات يورو، وهذا لا يسمح لك بإنشاء نظام عسكري شامل».
الواقع الذي ينتجه هذا النقص المتراكم، كما يراه بواييه، هو «التبعية الكاملة للولايات المتحدة». يقول عن ذلك «نحن مرتبطون جداً بأميركا بالنسبة للشؤون العسكرية، العديد من الدول الأوروبية تحتاج الحماية التي تقدمها، لكونها المزود الرئيسي للأمن، لذلك فهي تتبعها بالنسبة للسلوك السياسي الإستراتيجي».
لكن الولايات المتحدة نفسها صارت تشكو من عبء حماية الأوروبيين وتطالبهم بالتحرك، لأن الضمانة التي توفرها قدراتها العسكرية تحتاج أموالاً طائلة. تذكرهم بأنها تصرف على التسلح ثلاثة أضعاف ما تصرف بقية دول «الـناتو» الـ27 مجتمعة. فوق ذلك، تمويلها للحلف الأطلسي ازداد من 63 في المئة في العام 2001 إلى 72 في المئة حالياً.
معطوفاً على ما سبق، يأتي الضغط الكبير الذي شكلته الأزمة المالية على الأوروبيين. التقشف طال كل قطاعات الاقتصاد، وعلى رأسها القطاع العسكري، ما فاقم النقص الذي تعانيه جيوش قلّصت عديدها خلال حقبة السلم. هكذا، لم يعد الدفاع الأوروبي المشترك ترفاً سياسياً، يخضع لمزاج المترددين والرافضين. بات اللجوء إليه أشبه بحل وحيد لتجاوز شبه استحالة اعتماد كل دولة على نفسها، بعدما تحولت قضية ضعف الإنفاق من خيار سياسي إلى معضلة حسابية.
يمكن رؤية ذلك في مثال دولة أوروبية متوسطة في الحلف الأطلسي، هي بلجيكا، سواء بالنسبة لحجمها أو لتأثير الأزمة المالية عليها. الجيش البلجيكي ملزم الآن بخطة تقشف، ستقلص حجمه خلال خمس سنوات بمقدار الثلث تقريباً، وستؤثر على مشاركاته الدولية مثلما يفعل اليوم بإرساله ست طائرات «إف 16» إلى العراق.
وزارة الدفاع البلجيكية باتت تقول إن الحل بالنسبة لأوروبا هو «التضامن الذكي»، لإنشاء جيوش أقل حجماً وأكثر فعالية. يتساءل الخبراء الذين يؤيدون ذلك عن الداعي لأن يشتري كل جيش الأسلحة ذاتها، من طائرات وسفن وغيرها، في دعوة لأن يختص كل بلد أوروبي، أو عدة دول، بتغطية ناحية دفاعية معينة.
تنفيذ هكذا تصور سيكون خطوة متقدمة فعلاً في مجال الدفاع الأوروبي المشترك. مع ذلك، ليس واضحاً إن كانت الضرورات الحالية ستزيل العقبات المزمنة.
قادة دول الاتحاد ليسوا غافلين عن هذا الواقع بالطبع. في حالة السؤال عن لزوم أجهزة إخماد الحرائق، لن يتذكروا في الوقت الراهن سوى رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، وهو يكرر بعناد أمامهم أن المطافئ الأوروبية ليست ضرورية لأن هناك مركزاً للإطفاء. قال كاميرون في آخر قمة أوروبية، خصصت للقضايا الدفاعية، إن وجود الحلف الأطلسي يكفي، وبالتالي فإن «أوروبا ليست في حاجة إلى جيش». موقف كاميرون مبني الآن على معارضته لأي تقدم في الوحدة الأوروبية، خصوصا أن فكرة «الجيش الأوروبي» كانت أحد الهواجس الأصيلة لآباء مشروع الاتحاد.
في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، طرحت الحكومة الفرنسية إنشاء «مجتمع الدفاع الأوروبي». كانت مدفوعة بأفكار وزير خارجيتها روبرت شومان، عرَّاب مشروع الاتحاد الأوروبي، بفضل خطته التي أفضت إلى إنشاء «مجتمع الفحم والفولاذ الأوروبي» العام 1952. حينها، قدم الفرنسيون فكرة طموحة عسكريا: أرادوا حرفياً إنشاء «جيش أوروبي»، يُموَّل بميزانية مشتركة وتحت قيادة مجلس الدفاع الأوروبي. هذه المبادرة وئدت في مهدها، بعدما رفضتها الجمعية العامة الفرنسية جملة وتفصيلاً.
تكررت هذه المحاولات، وأدت إلى إنشاء هيئات مثل «وكالة التسليح الأوروبية»، وصولاً إلى «وكالة الدفاع الأوروبية» اليوم التي بقيت عملياً على الهامش.
البروفسور بواييه يرى هذه المحاولات «عقيمة». يقول إن فرنسا، بلده، «لديها إستراتيجية عسكرية، وهي تحاول فعل ما يمكن رغم محدودية الموارد». لكنها لم تستطع جذب الأوروبيين لمشروع مشترك: «نحن الفرنسيون نحاول جر بعضهم، للتفكير بأننا سوية يمكننا تطوير نظام استخبارات، لكن غير ذلك هم ليسوا فاعلين. يحتاجون الحماية من الولايات المتحدة، فيقرعون باب الأخ الأكبر».
لكن بعض المتفائلين يرون أن الظروف الآن تفرض التحرك الأوروبي. منهم بوغدان كليتش، وزير الدفاع البولندي السابق، الذي يعرب لـ»السفير» عن اعتقاده بأن أوروبا «يمكنها بناء دفاع مشترك، لأنها في الأوضاع الحساسة كانت دائما مستعدة لتغيير اتجاه سياستها الأمنية والخارجية». يرى أن من مؤشرات ذلك «تخصيص الزعماء الأوروبيين قمة حزيران المقبل لقضايا الدفاع، والتي ستأتي بعد 18 شهراً من قمة مماثلة، في حين مرت ست سنوات قبل ذلك من دون نقاش القضية على هذا المستوى».
مع ذلك، وحتى في أحسن الأحوال، لا يوجد أي مجال لاستقلال أوروبا عن حماية «الناتو»، بمحرّكه الأميركي، كما يقول كليتش نفسه: «السياسة الدفاعية المشتركة يمكن تطويرها لإدارة الأزمات والتغلب عليها، ستكون أداة فعّالة، لكن أمن الدول الأوروبية كان وسيبقى بين يدي الناتو».
في ظل احتدام الصراع مع روسيا، تقوم واشنطن بإرسال تعزيزات عسكرية إلى الدول الأوروبية الشرقية. حلف شمال الأطلسي يعزز وجوده هناك، ويزيد تدريباته ومناوراته. روسيا تقول إن الحلف، يعني الولايات المتحدة، هو المستفيد الأكبر من الصراع لأنه يعطيه عملاً ودوراً، كما يصقل مبررات وجوده.
في هذه الظروف، كثيراً ما يستعاد القول الشهير للورد هستيغز إزماي، أول أمين عام لـ»الحلف الأطلسي» الذي تأسس في العام 1949. ملخصاً السبب الجوهري لوجود «الناتو»، قال إزماي إن «الحلف الدفاعي الغربي خلق للحفاظ على النفوذ الأميركي، لإبقاء روسيا خارج اللعبة، ولإبقاء ألمانيا مكبّلة».
موقع المنار غير مسؤول عن النص وهو يعبّر عن وجهة نظر كاتبه