برغم مضي مهلة المفاوضات بين ايران والسداسية الدولية حول البرنامج النووي الايراني من دون اتفاق، لكنها حملت معها مؤشرات قوية على ان الاتفاق ممكن وربما أضحى قريبَ متناول اليد اذا حسُنت النوايا وتجذرت الإرادة السياسية.
علي عبادي
برغم مضي مهلة المفاوضات بين ايران والسداسية الدولية حول البرنامج النووي الايراني من دون اتفاق، لكنها حملت معها مؤشرات قوية على ان الاتفاق ممكن وربما أضحى قريبَ متناول اليد اذا حسُنت النوايا وتجذرت الإرادة السياسية. لكن تمديد أجل اتفاق جنيف المرحلي سبعة أشهر إضافية، بعد تمديدٍ أول دامَ أربعة أشهر بدءاً من 20 تموز/ يوليو الماضي، يحمل بذور شكوك حول إمكان إنجاز المهمة بقدر يوازي إمكانات التفاؤل الموجودة.
مضى عام بالتمام والكمال على إبرام اتفاق جنيف المرحلي الذي وضع أسساً عملية مؤقتة في الطريق الى اتفاق شامل ونهائي حول الملف النووي الايراني. أقر اتفاق جنيف بحق ايران في تخصيب اليورانيوم عند حدود 5 بالمئة، ومواصلة عمليات البحث وتطوير اجهزة الطرد المركزي التي يتم من خلالها تخصيب اليورانيوم. وتـُرك للمفاوضين استكمال البحث في نسبة التخصيب التي يحق لإيران القيام بها في الوضع النهائي (تطالب طهران بحق التخصيب بنسبة 20 بالمئة لتأمين احتياجاتها في المجال السلمي وترفض واشنطن وحلفاؤها ذلك) وتحديد سقف عدد اجهزة الطرد المركزي (تطالب ايران بعدم تقييدها بسقف متدن وتتعهد بتقديم ضمانات تهدئ مخاوف الغرب بشأن "عسكرة" برنامجها النووي، ويريد الغرب تحديد إمكانات الجمهورية الاسلامية في هذا المجال الى أقل عدد ممكن)، إضافة الى بحث موضوع مفاعل آراك الذي يعمل بالمياه الثقيلة (تبدي ايران استعدادها لتعديل مواصفاته بما يتلاءم مع الضمانات المطلوبة ويدعو الغرب لتفكيكه).
إرادة سياسية.. ولكن!
وبعد عام من المفاوضات المكثفة إثر الاتفاق المؤقت، لم يتم التوصل الى اتفاق اطار شامل، لكن الجانب الأميركي يقول الآن إنه يأمل تحقيق ذلك خلال 4 اشهر تليها 3 اشهر من المفاوضات الفنية. مع هذا، يمكن تسجيل ملاحظات عدة حول مفاوضات فيينا:
- عبّر الجانبان عن جدية في المحادثات إن على مستوى الخبراء او على مستوى وزراء الخارجية، أفصح عنها وزير الخارجية الأميركي جون كيري في الختام بالاشارة الى "أننا أحرزنا تقدماً حقيقياً وكبيراً" في فيينا. وقدّم المفاوضون منذ بداية الجولة انطباعات بأن ثمة قراراً سياسياً بالتوصل الى حل، ما يعكس نقلة نوعية في المفاوضات بالمقارنة مع جولات سابقة كانت واشنطن تميل فيها الى إملاء ارادتها على طهران وتحميلها المسؤولية عن تعثر المفاوضات وتطالبها بتقديم تنازلات. على العكس، فإن وزير الخارجية الأميركي قدّم في ختام هذه الجولة لإيران شهادة اعتراف باحترام التزاماتها الواردة في الاتفاق المرحلي طيلة عام مضى، الأمر الذي يشي بتغير في طريقة التعاطي من الجانبين، وبالخصوص من الجانب الأميركي. ولم يكن كيري مضطراً لإعطاء هذه الشهادة لايران لولا ان الأمور نضجت الى حد كبير. وقد يكون صحيحاً - استناداً الى المعطيات- أن هناك ارادة سياسية لإنجاز اتفاق، لكن الارادة لم تكن حاسمة بما يكفي للتوصل الى اتفاق ضمن المهلة المحددة بـ 24 تشرين الثاني/ نوفمبر.
- الطرف الإيراني، المتمسك بالحقوق الثابتة لإيران في المجال النووي، كان مُصِراً على التوصل الى اتفاق شامل خلال هذه الجولة سعياً الى رفع العقوبات، وهو تحفظَ مبدئياً على تمديد المفاوضات أشهراً إضافية. واستعدَّ وزير الخارجية الايراني محمد جواد ظريف للمغادرة الى طهران للتشاور بشأن أية اقتراحات يقدمها الجانب الآخر. لكن ذلك لم يتم، وبقيت المفاوضات – كما يقول مصدر إيراني مطلع- تدور حول الاقتراحات التي تقدم بها الوفد الايراني في مسقط في 9 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري. وعند ظهور تباينات جوهرية، ذهب الجانب الأميركي الى خيار التمديد، مستنفداً الوقت المتبقي في اجراء اللقاءات، لأنه لم يكن جاهزاً للإتفاق بعد.
- عقد وزيرا الخارجية الأميركي والإيراني قبيل ختام هذه الجولة، محادثات مباشرة من دون حضور المسؤولة الأوروبية كاثرين آشتون، رغبة في اغتنام الوقت الضيق للتوصل الى نتائج. وهذا بحد ذاته قد يراه البعض انعكاساً لتوجه مشترك الى الخروج باتفاق، لكنه من جهة ثانية يوضح أن المشكلة المطروحة تتعلق أولاً وأخيراً بواشنطن التي أحالت الملف بدايةً من الوكالة الدولية للطاقة الذرية الى مجلس الأمن الدولي، ثم عندما عجزت عن فرض مزيد من القرارات الدولية ضد ايران لجأت الى العقوبات الأحادية الجانب، وها هي تصل الى المفاوضات الثنائية مع ايران. أما الحضور المتأخر لوزراء خارجية الدول الخمس الأخرى في المجموعة الدولية فكان من باب الإطلاع على الحصيلة والمشاركة في "حفلة" التوقيع أكثر منه إحداث فرق في مسار المفاوضات.
عوامل مساعدة
ما الذي يدفع واشنطن لإبداء الاستعداد للتوصل الى اتفاق بشأن البرنامج النووي الإيراني حتى لو أدى ذلك الى إغضاب حلفائها من العرب والاسرائيليين؟
للوقوف على الإجابة، لا بد من ملاحظة التالي:
- لا تستطيع الإدارة الأميركية إحباط مساعي ايران في المجال النووي من خلال العقوبات فقط، وحتى العمل العسكري يبدو غير مضمون النتائج، في ضوء الحسابات العسكرية المعقدة والتداعيات المحتملة لذلك، مع الإشارة الى تقليص الميزانية العسكرية الأميركية وتراجع الإستعدادات القتالية للجيش الأميركي بعد حربي أفغانستان والعراق وانعدام اليقين حيال مستقبل الأوضاع في هذين البلدين وغيرهما.
- لا تستطيع الإدارة الأميركية الإستمرار في الحفاظ على تماسك المجموعة الدولية المسماة 5+ 1، لا سيما انها أخفقت في العودة مرة أخرى الى مجلس الأمن لملاحقة البرنامج النووي الايراني، في ضوء المعارضة الروسية والصينية، بل إن روسيا أطلقت رسائل واضحة بشأن استعدادها لرفع العقوبات عن ايران من جانب واحد ولعقد صفقات طويلة الأجل معها في الشقين النووي والاقتصادي. ويمكن القول إن جدار العقوبات أصيب بتصدعات عدة ناتجة عن الحسابات التجارية للدول والشركات المعنية، وقد استطاعت ايران عبر اجراءات التفافية وحوافز عدة إقامة علاقات واسعة مع دول صناعية مستهلكة للنفط مثل الصين والهند. وثمة شركات أميركية وأوروبية بدأت اتصالات مع ايران لاستطلاع إمكانات الاستثمار على أرضها. وهناك مخاوف لدى روسيا من حصاد الغرب لنتائج العقوبات على حساب علاقاتها مع ايران.
- والى العوامل الضاغطة أعلاه، تجد الإدارة الأميركية نفسها أمام احتدام الكباش الحاصل مع روسيا في أوكرانيا وسط تصاعد الإجراءات العقابية الغربية بحق موسكو، وهو ما يستلزم تبريد جبهات أخرى. وقد يصبح عزل روسيا وايران معاً اختباراً صعباً للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط وسبباً إضافياً لإلحاق الأذى بالاقتصاد العالمي، لا سيما انهما بلدان منتجان ومصدّران للنفط.
- كما ان الحملة الدولية على تنظيم داعش والجماعات الإرهابية الاخرى تفقد الكثير من الزخم وقد تواجه الإخفاق في ظل غياب أي شكل من أشكال التفاهم مع ايران، مع الأخذ في الاعتبار ان لإيران حضوراً ودوراً في توجيه العمليات ضد داعش في العراق، ووقوفها الى جانب سوريا يضيف الى دورها ثقلاً لا يُنكَر. وقد حدث سجال مؤخراً بين طهران وواشنطن على خلفية تسريبات أميركية عن طرح ايران الملفات الإقليمية على طاولة البحث مع الجانب الاميركي لقاء مكاسب في الملف النووي، الأمر الذي نفته ايران قطعياً من أعلى هرم القيادة، مؤكدة أن المسؤولين الاميركيين هم الذين فاتحوا نظراءهم الإيرانيين بهذا الموضوع، وانها تريد حصر المحادثات بالملف النووي فهو محك الإختبار الأساسي لنوايا واشنطن حيال ايران ونظام الجمهورية الاسلامية.
- في مقابل هذه الاعتبارات جميعاً، يبقى شيء من المعقولية للإستنتاج بأن واشنطن أخرت إبرام اتفاق مع ايران، لأنها تخشى انفراط عقد العقوبات الدولية، ما سيضعف قدرتها على الضغط على طهران الى آخر الشوط ، وهي ستحاول استثمار الوضع الحالي ما أمكنها ولأطول فترة ممكنة لتحقيق غاياتها. بهذا المعنى، أضحت العقوبات التي كانت أداة ضغط بيد واشنطن عقبة أساسية أمام الإتفاق المنشود يصعب عليها التخلي عنها.
مخاطر التمديد
يقف تمديد مهلة التفاوض الجديدة أمام مخاطر عدة يبرز في مقدمتها تحرك اللوبي الاسرائيلي في الولايات المتحدة ضد أي اتفاق مع ايران لا يتضمن تجريد برنامجها النووي من عناصره الاستقلالية، خاصة لجهة امتلاك دورة الوقود النووي من ألفها الى يائها، بصرف النظر عن الضمانات المقدمة من ايران لناحية وجهة الاستعمال. ومع اشتداد عُود الجمهوريين في مجلسَيْ الكونغرس الاميركي على أثر الانتخابات النصفية الأخيرة، تجددَ التلويح بطرح تشريعات بفرض عقوبات جديدة ضد ايران، من شأنها ان تنتهك بنود اتفاق جنيف المرحلي وتعيق تقدم المفاوضات. وسبق ان أوقف البيت الابيض مشروع عقوبات قدمه عضوان في مجلس الشيوخ، ونال تأييد 60 من أعضائه بمن فيهم 16 من الديمقراطيين. وهؤلاء يريدون فرض مزيد من الضغوط على ايران وإجبارها على تقييد برنامجها النووي الى أدنى حد ممكن.
لكن حتى عقوبات الكونغرس لن تفلح في جلب ايران الى موقع الخاضع للإرادة الأميركية، فلم تؤد العقوبات الى دفع الايرانيين للتراجع عن البرنامج النووي او القبول بتحجيمه، إنها - بالنسبة إليهم - قضية وطنية بامتياز يتمخض عنها الشعور بالكرامة والفخر والاستقلال.
وأوباما الذي يدرك ذلك جيداً، يملك دستورياً حق نقض اي عقوبات من هذا النوع، بغرض استمرار التواصل مع ايران ووقف تقدمها النووي عن طريق المفاوضات إن أمكن، خاصة بعد القفزة الناتجة عن تطويرها أجهزة طرد مركزي متقدمة وتخطيطها لبناء منشآت نووية اضافية. مع العلم ان الاتفاق المرحلي لم يضع قيوداً على عمليات البحث والتطوير التي تجريها ايران في مجال التكنولوجيا النووية السلمية.
واذا كان الساسة الاميركيون يرددون أن العقوبات هي من جلب ايران الى المفاوضات، وهذا أمر يحتاج الى نقاش، فإن صمود ايران أرغم الولايات المتحدة على التعامل مع المفاوضات النووية بشيء من الواقعية: اي الانتقال من طور الإملاء الى طور الاستماع الى وجهة نظر طهران.
بناء على ما سبق، فإن تمديد المفاوضات قد يكون فرصة لعقد اتفاق متين، وإلا سيتحول مساحة ًمفتوحة لمن يشاء للعب على التناقضات وتخريب الجهود التي بُذلت في السنين الماضية. وكلما طال الوقت على المفاوضات، كلما واجهت احتمالات الإنهيار لأقل خلاف.
ويمكن القول إنه حتى الاتفاق الشامل لن ينهي الخلاف جذرياً: فأميركا تحاول تجريد ايران من عناصر قوتها المختلفة وإضعاف حضورها الاقليمي وتهديد استقرارها الداخلي بعناوين مختلفة، وإيران تسعى في المقابل الى محاربة الهيمنة الاميركية في المنطقة وتحمل مشروعاً عقائدياً ضد "اسرائيل". وهذان الخطان متوازيان غالباً لا يلتقيان إلا ليفترقا!
للتواصل مع الكاتب: aliabadi2468@yahoo.com