وحصد استعــــمار الإنكلـــيز لولاية فيرجينيا معه موتاً فظــــــيعاً، فمن بين الثمـــانية آلاف مستعمر جديد الذين وصــــلوا بين العامين 1607 و1625، بقـــي 15 في المئة منهــــم فقــــط على قيـــد الحياة.
قتل الشتاء الأول على الكثـــــير من الإنكليز الذين قدموا إلى منطقة بلايموث الاميركية. في خريف العــــام 1621، بقي 53 انكليزياً فقط من الـ132 الذين وصلــــوا على مــــتن سفينة الـ»مايفلاور»، أحياء. ولكن أولئك الذين بقــــوا على قيد الحياة، حملوا معهـــــم الحصاد.
وهكـــــذا، حفــــاظاً على تقلـــــيد قديم، دعا الحاكم الأحياء الـ53 إلى ثلاثة أيام من الاحتفال، وانضم إليهــــــم 90 شخــــصاً من قبيلة «وابانوغ». كان الطعام خلال الاحتفال مناســــبة للاعتراف بأن أول ما زرعه الإنكليز حين استعمروا منطقة بلايموث في الولايات المتحدة المكتشفة حديثاً، هو أول خطوة في اتجاه الاستقرار... والربح.
هذا الأمر لم يكن بالشيء البســــيط. ففي بادئ الأمر، كان الموت شائعاً. وحصد استعــــمار الإنكلـــيز لولاية فيرجينيا معه موتاً فظــــــيعاً، فمن بين الثمـــانية آلاف مستعمر جديد الذين وصــــلوا بين العامين 1607 و1625، بقـــي 15 في المئة منهــــم فقــــط على قيـــد الحياة.
وبالرغم من الموت الذي شاع، استمر الإنكليز بالمجيء إلى الولايات المتحدة. لم يكن ذلك بلا سبب، ففي القرن السابع عشر، كانت أوروبا في حالة غليان، وكان وضع انكلترا فيها غير آمن، كما كان وضعها الداخلي أيضاً، الذي أوصل إلى الحرب الأهلية في العام 1642 وقتل الملك في العام 1649. من هنا، ولدت المستعمرات الإنكليزية، ومنها مستعمرات بلايموث وماساتشوستس باي وجزيرة بروفيدانس في الكاريبي، وكلها نتيجة مخطط للطائفة «البيوريتانية» (طائفة من الإنكليز البروتستانت في القرنين السادس والسابع عشر) لحل المشكلات التي تغرق فيها انكلترا.
لقد عاشت انكلترا انقسامات داخلية خلال النصف الأول من القرن السابع عشر أوصلت إلى الحرب الأهلية، وكان للدين دور كبير فيها، وتحديداً حول وجهة الكنيسة، التي انقسمت بين ميل لأسباب سياسية للكاثوليكية السائدة في الدول الأوروبية الأخرى، وبين البروتستانتية. من هنا، أراد «البيوريتانيون» (التطهيريون) أن ينظفوا الكنيسة من أي علامات كاثوليكية. وهذه الأزمة، معطوفة على أخرى سياسية، وضعت البرلمان ( المسيطر عليه من قبل البيوريتانيين) في مواجهة الملكين، جايمس الأول، وابنه شارل الأول.
وكانت اسبانيا تؤرق عيش الإنكليز. فانكلترا البروتستانتية كانت تجد دوماً نفسها تحت تهديد مباشر من القوى الكاثوليكية في أوروبا. وكانت تجد أن ملوكها غير عدائيين بالقدر الكافي تجاه اسبانيا. وكان البيوريتانيون في البرلمان يريدون أن تضرب انكلترا مباشرة اسبانيا من خلال الهجوم على سفنها القادمة من الأميركيتين، إلى أن فكرت مجموعة منهم بالذهاب أبعد من ذلك، إلى إنشاء مجموعة من المستعمرات في أميركا لإنزال اسبانيا عن عرشها الاستعماري وإعادة التوازن الجيوبوليتيكي، وبدأوا بذلك من منطقة «نيو انغلاند» في الولايات المتحدة (وهي أول مستعمرة للإنكليز هناك)، التي رأوا فيها مكاناً آمناً من الاعتداءات الإسبانية.
لم تكن تجارب البيوريتانيين في غزو واستعمار الأميركيتين جميعها ناجحة. وحدها «نيو انغلاند» ازدهرت، لتصبح مع الوقت الاستنساخ الأقرب للتجربة الإنكليزية السياسية خارج الجزر البريطانية، وعنصراً إقليمياً مؤسساً للمستعمرات الـ13 (المستعمرات الإنكليزية على الساحل الأطلسي لشمال أميركا بين العامين 1607 و1733)، ولاحقاً لـ«الولايات المتحدة». كانت «نيو إنغلاند» مركز القوة الزراعية التي اعتمدت على المزارعين المنفردين وعلى العائلات، ولاحقاً أصبحت القوة الصناعية الأولى في الولايات المتحدة.
هكذا، يكون الاحتفال بالمنتوج الزراعي لأول سنة استعمارية للإنكليز في بلايموث، والتي كانت سنة عنيفة جداً، نتاجاً مزدوجاً لصراع انكلترا مع اسبانيا في القارة الأوروبية والعالم الجديد. وهكذا أيضاً، يكون أشهر طبق تعرفه الولايات المتحدة اليوم، وهو الديك الرومي في «عيد الشكر»، مطعماً بنكهة الصراع في السياسة والجغرافيا.
(عن معهد «ستراتفور»)