كانت «القاعدة» داخل السعودية، امتداداً لحركة نزع الشرعية الدينية عن الدولة، لتخاذلها في تطبيق الشريعة وفق رأيهم .. واليوم يمثل «داعش» الامتداد الأكثر وضوحاً للوهابية الأصلية
شكلت معركة السبلة عام 1929، بين الملك عبدالعزيز وعلماء الدين المنضوين تحت لوائه من جهة، وإخوان من طاع الله (الجيش العقائدي المكوّن من البدو، الذي ساهم بتوحيد المملكة تحت قيادة الملك عبدالعزيز) من جهة أخرى، مفاضلة بين وهابيتين: وهابية أصلية، تلتزم النصوص المؤسِّسَة للوهابية، وأخرى براغماتية، تعدّل التعاليم الوهابية بما يتناسب مع الواقع.
اختلف العلماء المساندون للمك عبدالعزيز مع «الإخوان» في أمور عدة، منها تعامل الدولة الناشئة مع البريطانيين، ورفض استكمال الجهاد خارج الحدود، وأدت المواجهة إلى انتصار النهج الوهابي المعدّل، لكن الوهابية الأصلية لم تختفِ، واليوم يمثل «داعش» إحدى أبرز تجلياتها.
لم تكن الوهابية المعدّلة شريكة في الحكم مع الملك عبدالعزيز، على غرار الشراكة التاريخية بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والإمام محمد بن سعود، والتي أدار من خلالها الطرفان معاً الدولة وشؤونها، بل إن الوهابية المعدّلة وعلماءها كانوا تحت نفوذ وسلطة الملك عبدالعزيز، والأخير كان هو السلطة الأعلى، وهو يمنح العلماء وأتباع الوهابية نفوذاً يتلاءم مع التوجهات الإيديولوجية للدولة، لكن هؤلاء ليسوا شركاء في الحكم. إعلان قيام المملكة السعودية، بهذه الصيغة، التي تجعل من عبد العزيز ملكاً، وصاحب السلطة الأعلى، كان بداية غياب النموذج الوهابي التقليدي عن الحكم، القائم على شراكة كاملة بين الشيخ والأمير.
مع ذلك، استمر نفوذ الوهابية، وسمحت السلطة السياسية للمتدينين الوهابيين بنشر أفكارهم، واستخدام إمكانات الدولة لذلك، ضمن حدود ترسمها السلطة نفسها، وشهد تاريخ الدولة السعودية الثالثة وجود شخصيات دينية ذات أثر مهم، وكان للشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، مفتي المملكة حتى وفاته عام 1969، نفوذ كبير، إذ كان يشرف على القضاء، ويحاسب حتى بعض المسؤولين، وقد أشرف على رئاسة تعليم البنات، وعين رؤساءها، كما أشرف على الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة. ربما يكون الشيخ محمد بن إبراهيم آخر علماء الوهابية المتنفذين بهذا الشكل ضمن الدولة، فبعد وفاته دخلت الوهابية في مرحلة جديدة من الاحتواء.
تعرضت الوهابية المعدّلة لضربتين جعلتاها أقل فاعلية بكثير في المجال العام، الأولى كانت عبر توسّع الجهاز البيروقراطي للدولة، وضمّه مجموعات من الموظفين التكنوقراط غير الوهابيين، والذين لا يرون أن من مهماتهم تعزيز الإيديولوجيا الوهابية من خلال المؤسسات التي يعملون بها.
أما الضربة الثانية فكانت بإدخال الوهابيين أنفسهم إلى جهاز الدولة البيروقراطي، ومأسسة الوهابية بضم العلماء الوهابيين إلى مؤسسات الدولة، وتحويلهم إلى موظفين إداريين يقومون بمهمات محددة، ضمن صلاحيات مرسومة للمؤسسات التي يعملون بها. بعد وفاة الشيخ محمد بن إبراهيم، قام الملك فيصل بإنشاء هيئة كبار العلماء عام 1971، والتي أنيطت بها شؤون الفتوى، ويُختار أعضاؤها بأمر ملكي (لم يعد منصب المفتي العام بعد وفاة الشيخ ابن إبراهيم إلى الواجهة إلا عام 1993 بتعيين الشيخ عبدالعزيز بن باز مفتياً عاماً للمملكة)، كذلك أنشأ الملك فيصل مؤسسة تحمل اسم «الهيئة القضائية العليا» لتحل محل رئاسة القضاة، التي كان يتولاها الشيخ ابن إبراهيم، وقد تحولت بعد خمس سنوات إلى «مجلس القضاء الأعلى»، وباتت رئاسة القضاة تابعة لوزارة العدل. هكذا، صارت الوهابية ضمن نطاق جهاز الدولة البيروقراطي، تعمل مؤسساتها مثل بقية المؤسسات، تحت إشراف كامل من السلطة السياسية.
سمحت السلطة السياسية للمتدينين الوهابيين بنشر أفكارهم
أحد تمظهرات حركة جهيمان العتيبي، التي قامت باحتلال الحرم المكي عام 1979، هي الاعتراض على ضعف تطبيق الشريعة في الدولة، ومداهنة العلماء للسلطة السياسية، وقد استعادت الحركة في ذلك، خطاب «إخوان من طاع الله»، في محاولة للعودة إلى الوهابية الأصلية، التي فرّط علماء المؤسسة الرسمية بها. وتمكن ملاحظة نقد العلماء وركونهم إلى الدعة والمسكنة، وتخاذلهم عن مطلب «قيام السلطان مع الدين»، في رسائل جهيمان العتيبي. تمرّد جهيمان، ومن معه، على احتواء الوهابية وتشذيبها والسيطرة عليها من الدولة، ولم تكتب نهاية الحركة نهايةً لموجات التمرد الرافضة للوضع القائم، والراغبة في استعادة مكانة الوهابية وسطوتها.
في الثمانينيات منحت بعض الظروف الداخليّة، كما الخارجية المتصلة بالصحوة الدينية التي عمّت المنطقة، والقرار السعودي بمواجهة المدّ الثوري الإيراني، والجهاد الذي دعمته المملكة في أفغانستان، الفرصة لتعزيز التيارات السلفية، وخلق ظاهرة سلفية شعبية، عُرِفت بـ»الصحوة الإسلامية»، تمّ تمكينها من استثمار مؤسسات الدولة للترويج لأفكارها، فانتعشت التيارات السلفية بأنواعها، وأصبحت تتمتع برصيد شعبي كبير.
إثر حرب الخليج الثانية، ومعارضة مشايخ الصحوة لاستقدام القوات الأميركية، تحول هذا التيار الدعوي إلى معارضة سياسية بين 1990- 1994، وظهر نقد من مشايخ تيار «الصحوة» للعلمانيين داخل مؤسسات الدولة، ولما اعتقدوه نفوذاً لهم في دولة يفترض بها تطبيق الشريعة ومحاربة العلمانية، وطال النقد المؤسسة الدينية الرسمية، ممثلة بهيئة كبار العلماء، بعد موافقتها على قرار السلطة بالاستعانة بالقوات الأميركية.
المعارضة الصحوية صاغت مذكرة بمطالبها أسْمَتها «مذكرة النصيحة»، تطلب فيها من السلطة السياسية مطلباً رئيساً، يتكرر طوال فقرات المذكرة، وهو إعادة الاعتبار لدور العلماء ورجال الدين، وتمكينهم من الإشراف على كامل أنشطة الدولة وأجهزتها، أي أن المطلب الرئيس للمعارضة الصحوية كان العودة إلى الشراكة التاريخية بين الشيخ والأمير، والتي تبين لهم أن صيغتها القديمة انتهت، وأن السلطة السياسية حجّمت الوهابية وجعلتها تحت سيطرتها. اختلفت «الصحوة» عن جهيمان والقاعدة، فلم تتجه إلى حركة تمرد مسلحة، لكنها عملت على حشد الناس لمطالبها، وانتهى الأمر باعتقال رموزها من المشايخ والنشطاء عام 1994.
من جملة القرارات التي اتخذتها الدولة لاستيعاب الحراك الصحوي مطلع التسعينيات، استحداث وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد عام 1993، وكان الهدف الرئيس من إيجاد هذه الوزارة المزيد من ضبط المجال الديني، وسحب ما منح للصحوة من حرية في الحركة والتصرف داخل مؤسسات الدولة، أو باستخدام المنابر الدينية، وأصبحت الوزارة الجديدة تضبط أوضاع المساجد وأئمتها وحلقات تحفيظ القرآن والأنشطة الدينية بالعموم، وهكذا فإن الاتجاه نحو المزيد من المأسسة، قلَّص نفوذ الوهابية أكثر، وأكد بشكل أكبر سطوة السياسي على الديني في السعودية.
كان لأحداث الحادي عشر من أيلول أثرها، الذي تمثل في مزيد من الضبط وتقليص الوهابية من قبل السلطة السياسية، فحصلت مراجعة للمناهج الدينية، وأغلق بعض المؤسسات الخيرية مثل «مؤسسة الحرمين»، للاشتباه بتمويلها الإرهاب. كانت أعمال «القاعدة» داخل السعودية، بداية من عام 2003، امتداداً لحركة نزع الشرعية الدينية عن الدولة، لتخاذلها في تطبيق الشريعة، واتساقاً مع مبادئ الوهابية الأصلية، ضد الوهابية المعدّلة، واليوم يمثل «داعش» الامتداد الأكثر وضوحاً للوهابية الأصلية، في وقت تغيّر السعودية الكثير داخل الوهابية. وخلال السنوات العشر الماضية واصلت الدولة عملية تكييف الوهابية مع احتياجاتها، ما جعل الوهابية الحالية تتباعد بشكل أكبر عن أصولها، مع احتفاظها ببعض الملامح العامة.
قبل ما يقارب العامين زار بعض المشايخ السلفيين (من بينهم الشيخ عبدالله المحيسني الذي ذهب بعد ذلك إلى سوريا لمناصرة الحالة الجهادية هناك) الديوان الملكي، ووقفوا أمام بوابته، من دون أن يُسمح لهم بالدخول، وقد جاؤوا للتفاهم مع المسؤولين في الديوان، والاعتراض على ما اعتبروه متغيرات أحدثتها السلطة تتعارض مع الدين. هذا المشهد ومطالب المشايخ، يعبران عن التحجيم الذي أصاب الوهابية خلال السنوات الماضية، يضاف إليه ترهل المؤسسة الدينية الرسمية، بخاصة بعد غياب شخصيات وازنة فيها مثل الشيخين: ابن باز، وابن عثيمين.
هذا الاستعراض مهم لتأكيد قدر التبسيط الذي يحمله الحديث عن سيطرة وهابية على جهاز الدولة في السعودية، أو عن شراكة كاملة بين المؤسستين الدينية والسياسية، وتالياً قصور التحليلات التي تُبنى عليه. وفي نفس الوقت الذي تُقلّم فيه أظافر الوهابية، يبدو أيضاً أنها ستظل إحدى أهم مصادر الشرعية بالنسبة للدولة، ولأسباب عديدة يصعب توقع الانتقال منها إلى إيديولوجيا مغايرة في الوقت الحالي، لكن تهذيبها وتكييفها مع احتياجات الدولة سيبقى قائماً.
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه