عندما نذكر كلمة إنقسام على المستوى السياسي المسيحي في لبنان، فالأمر ليس "قسمة أخوة" متساوية على الإطلاق، لا بل ليس هناك مجال للمقارنة عدديا بين المسيحيين.
أمين أبوراشد
عندما نذكر كلمة إنقسام على المستوى السياسي المسيحي في لبنان، فالأمر ليس "قسمة أخوة" متساوية على الإطلاق، لا بل ليس هناك مجال للمقارنة عددياً بين المسيحيين المتموضعين ضمن الفريق السياديّ الوطني المُقاوم، وبين أولئك الذين راهنوا ويُراهنون على التحولات الإقليمية، منذ الإجتياح الإسرائيلي للبنان لحين قدوم المدمِّرات الأميركية في "إبحار الخيبة" نحو المتوسط، ووصولاً للكفر بالقيَم الحضارية والإنسانية في الرهان على التكفيريين من مدمِّري كنائس ومساجد الشرق ومُهَجِّري المسيحيين المشرقيين وسواهم من الأقليات المظلومة من العراق ومحاولة تهجير بقاياهم من سوريا.
يوم كان غبطة الكاردينال الراعي مطراناً على جبيل قال: المسيحيون اللبنانيون باتوا منقسمين بين مسيحي شيعي ومسيحي سُنِّي، في إشارة الى التموضع السياسي لفريقٍ منهم الى جانب حزب الله والمقاومة، وفريقٍ آخر الى جانب القُطب القادر أن يحمله إنتخابياً الى الندوة البرلمانية.
وإذا كان الفريق الأول لديه ثوابت سيادية تلاقت مع طروحات مقاومة وطنية، ووجد تموضعه الطبيعي ضمن تحالفٍ واجب الوجود لإنقاذ وطن، فإن للفريق الآخر ظروفه الإنتخابية التي دفعت به بين أحضان الرئيس الحريري أو النائب وليد جنبلاط.
على هامش لقاء السيد نادر الحريري مع الوزير علي حسن خليل برعاية الرئيس برِّي، لوضع اللمسات الأخيرة على برنامج الحوار لتيَّار المستقبل مع حزب الله، أطلّ قائد "القوات اللبنانية" السيد سمير جعجع وأبدى عدم الممانعة في الحوار مع الحزب شرط أن يتقدَّم كل فريقٍ خطوةً نحو الآخر، وقال أيضاً أن الرئيس الحريري كان قد وافق على انتخاب العماد عون رئيساً للجمهورية لو وافقت المكونات الأخرى من 14 آذار على هذا الأمر، مما يعني أن الخلاف هو دائماً مسيحي – مسيحي.
نحن نتحدَّث مسيحياً ونقول: الخلاف بين المسيحيين يتعدَّى موقع رئاسة الجمهورية، وإذا كان السيد جعجع من خلال استعداده للحوار مع حزب الله "يطمح" لتحقيق مكاسب استراتيجية قد تتطرَّق لبحث مسألة السلاح أو وجود بعض عناصر المقاومة في سوريا، فإن المسيحيين على امتداد الخارطة اللبنانية ممن يعتبرون أنفسهم أهل المقاومة وناسها باتوا معنيين بمسألة تحييد سلاح المقاومة عن أي بحث أو حوار أكثر من سواهم، لأن لا رئاسة الجمهورية ولا قانون الإنتخاب العتيد أهمُّ من سلاحٍ مقاوم، يحمي اللبناني المسيحي كما المسلم، عزيزاً كريماً في وطنه ويدرأ عنه مخاطر العنصرية الصهيونية من الجنوب والتكفيرية الشيطانية من الشرق، إضافة الى وجوب ضبط إيقاع بعض مخيمات اللاجئين والنازحين وإبعادها عن "الإستعمالات" الداخلية.
مِنَ الغريب أن يعتقد البعض أن الوحدة المسيحية واجبة الوجود سياسياً، لأن المسألة ليست تمترساً مع هذا الفريق أو ذاك لحماية الوجود المسيحي، بل هي خلافٌ بين المؤمنين بالتاريخ المشرقي المسيحي وضرورته الحضارية في صياغة مجتمعٍ إنسانيٍّ متجانس مع الأخ الآخر، وبين المراهنين على "الكنتنة" وعلى "الأسرلة"، وحتى على الشياطين لبيع المسيحيين بثلاثين من الفضَّة.
الغالبية الساحقة من المسيحيين في لبنان المؤيدة للمقاومة، ليست تقتصر فقط على أنصار التيار الوطني الحر وتيار المردة، لأن أصحاب الإنتماء القومي العلماني والعروبيين المسيحيين وإن كانت قد خابت آمالهم من كل ما يمتُّ للقومية العربية بِصِلة نتيجة ما يسمى بربيع العرب، فإن بوصلة العدو لديهم لم تنحرف قيد أنمُلة عن مسارها، ولا بأس لو فشل المسيحيون في إحياء القومية العربية الجامعة طالما أنهم بوجود العرب وبدونهم، عدوّهم هويته معروفة منذ صُلِبَ السيد المسيح على أيدي الرومان بمباركة اليهود!
ولأن الحوار المرتقب بين حزب الله و"المستقبل"، سيُقُارب موضوع انتخاب رئيس الجمهورية "المسيحي" وقانون الإنتخابات العتيد الذي قد يُعيد للمسيحيين بعض حقوق تمثيلهم ويُخرجهم من ذمِّية من أوصلوا ممثليهم عامي 2005 و2009، فإن المواطن المسيحي اللبناني العادي يتطلَّع الى من يقبله كآخر في هذا الشرق ويعترف بحيثيته الوجودية ودوره الحضاري ويتضامن معه من منطلق المواطنة في أوقات المِحَن، أكثر مما يتطلَّع الى كرسي رئاسة جرَّدها الطائف من مضمونها وسلطاتها، لكن هذا لا يعني أن كل قطبٍ سياسيٍّ في لبنان بات من حقه أن يسحَب من كتلته النيابية مارونياً "كيفما كان" ويُرَشَّحه لرئاسة الجمهورية ويفرضه على المسيحيين.
وأمام تجارب عدم إلتزام البعض من المسيحيين بكافة المواثيق والإتفاقات التي توصَّلت إليها اللقاءات في بكركي بالذات، نتيجة ارتباطهم بأجندات غير لبنانية، فإن الوحدة في الموقف السياسي المسيحي ليست مطلوبة إذا كانت على حساب التاريخ المسيحي المشرقي المشرِّف، منذ تقدَّم المسيحيون اللبنانيون على سواهم في إحياء الروح القومية سواء عبر أحزابٍ سياسية، أو في دعمِ مقاومة إسلامية لبنانية حاضنة للسيادة، والتي لولاها منذ العام 2000 وما تلاه، لما بقي وطن لا للمسيحيين ولا للمسلمين، ومسألة التفاعل الوجودي في الحياة اليومية أهم وأغلى من انتخاب رئيس أو ممثِّلين للشعب، لأن هذا الشعب لا يُطالب سوى بمظلَّة وطنية تجمعه بالشريك الآخر على قاعدة الحق بالوجود الكريم قبل البحث بتفاصيل المساواة في محاصصة الحقوق والواجبات، خاصة أن بداية إعادة الكرامة للتمثيل المسيحي هي في أن يتخلَّى بعض الأقطاب من غير المسيحيين، عن ذهنية الإقطاع و"المقطعة" بالآخرين عبر حمل ممثلي الشعب المسيحي في سلَّة الذمِّية والإذلال، وأن يتوقفوا عن رمي الكُرة في ملعب المسيحيين للتوافق، لأن هناك فارقاً شاسعاً في الثقافة الوطنية بين الفريقين، وهناك اختلاف على العدوِّ الخارجي وعلى الصديق، وحاذروا أن تخلطوا الزيت بالماء لأن زمن المعجزات والعجائب قد ولَّى من زمان....