سيكون الصدام مع الاحتلال الصهيوني الذي يَرى فيه إنساناً ما، وهُو بذلك، سيُدرك أنَّ لا مَكان لحوار الإنسان ـ الإنسان، بَين قاتلٍ وضحيَّة، أو بَين مَن يعتقد بالتفوُّق وبَين مِن يُسحَر بهذا التفوق ويتخلَّى عن جلده
قبل أسابيع قليلة، كان هناك نقاش ساخن في جامعة بيرزيت حول أخلاقية طرد أم عدم أخلاقية طرد عميرة هاس، الكاتبة الصحافية الإسرائيلية في جريدة «هآرتس» من جامعة بيرزيت، حيثُ كانت حضرت لتحضر مؤتمراً في داخل الجامعة. ودار النقاش، حول أن سلوكاً كهذا يعدُّ عنصرية من المسلمين ضدَّ اليهود، وهُو ما أشارت إليه الصحافيَّة ذاتها في مقال لها.
أي إنَّ عميرة، ليست إسرائيلية، وقد أصرَّت على تسجيل اسمها بجانبه «هآرتس»، كمؤسسة إسرائيلية صحافية، كانت تنشر بعد يومين، تقريراً استخبارياً تحليلياً، يعرض كيف يجب أن تتم السيطرة على الفلسطينيين وقتلهم في الأنفاق في حدود غزَّة بصورة أفضل.
وهِي الصحيفة التي تصدَّر للفلسطينيين على أنَّها صحيفة ليبرالية تنقل معاناتهم، وهذا أوَّل الأوهام، من أوهام الليبرالية. وهو النقاش ذاته الذي أثير قبل أيامٍ قليلة على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، حول أخلاقيَّة أم عدم أخلاقية، عملية القدس، التي نفذِّت في كنيسٍ إسرائيلي مقام فوق أرض قرية دير ياسين في مدينة القدس المحتلة.
وفي كلِّ مرة، نرى أنفسنا نحنُ الفلسطينيين، أمام هذا الجدار من الأسئلة، هَل ما نقوم به أخلاقي أم غير أخلاقي؟ وهَل علَينا أن نلبسَ لباس الدولة التي تعترف بحقوق الإنسان وتَصون العهود والمواثيق الدولية، أم نتصرَّف كشعب محتل وما زال تحت الاحتلال منذُ ستين عاماً؟ وهذا التساؤل في حد ذاته، يدخلُنا مأزقاً وجودياً في هذه اللحظات. أي، كيف وصلنا، ونحن نرى وما زلنا نرى، جنود الاحتلال يقفون أمامنا، للتساؤل حول أخلاقية طرد هذا الاحتلال من جامعاتنا ومدننا، ومواجهته والنضال ضدَّه في كل أماكن وجوده؟.
ليس الوقتُ متاحاً أمامي، للبدء بالبحث من أين بدأ كل هذا، ولكنَّ أوتار الإنسانيَّة والأخلاق بدأت تعزف على صفحات التواصل الاجتماعي وفي مدينة رام الله تحديداً، بصوتٍ عالٍ، يُزعج أحياناً، ويُسقط في بعض الأحيان، هويَّة شعبٍ ما زال تحت الاحتلال، ويضعُ هذا الشعب في مواجهة أسئلة الأخلاق. بَل ويعيدُ تعريفَ الأخلاق، وتعريف الإنسانيَّة، وتعريف النضال، ووضع حدود وأماكن وأوقاتٍ لهذا النضال ضدَّ الاحتلال. ومن الواضح، ولتكرر هذه الأسئلة الأخلاقيَّة، والمناقشات الإنسانيَّة حولَ ما هو أخلاقي وإنساني وما هو غير ذلك، أن هذه الأفكار أصبحت منتشرة وموجودة، شئنا أم أبينا.
صار لازماً أن تكون المقاومة في خطاباتنا واجباً لتحوِّل الحق إلى واجبٍ جماعي
بفعل أوسلو أم بفعل غيرها، بفعل الانفتاح وتبعاته أم بفعل آخر، بفعل مواقع التواصل الاجتماعي أم بفعل غيرها، لا يهم كل هذا، المهم أنَّها موجودة، وهِي حجَّة ذات بنيان، من الصحيح أنَّه هش، ولكنَّها حجَّة مقنعة للبعض، وهادمة للكثير مما حاولت الهويَّة الفلسطينيَّة منذُ عشرات السنين بناءه وتثبيته. وفي حديث الأخلاق، وفي عمليَّة القدس تحديداً، أخذَت الحوارات مجرى الرد على الطرف الأوَّل الذي يدعي عدم أخلاقيَّة هذه العملية، مجرى التبرير لعدم أخلاقيتها.
وذلك في الحديث عن أن سكان مدينة القدس من الفلسطينيِّين مُحاطون بكم من الضغوط الاقتصادية والسياسية والاجتماعيَّة، وأنَّ حالة الخنق الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، هي التي تدفع إلى هذا النوع من العمليات العشوائية والفردية. وفي هذا الحديث، جزء خفي، يشير إلى عدم أخلاقيَّة هذه العملية، ولَولا هذه الظروف الموضوعية لأهالي مدينة القدس، لَما كانت عمليات كهذه. ولكنَّ الطرفان، من يبرر للاأخلاقيَّة العملية، ومن يرى بلاأخلاقيتها وبالتالي عدم تبريرها، لا يرون الطَرف الآخر، الإسرائيلي الإنسان لهم، كصهيوني.
وهذه المقالة، ليست دفاعاً عن عملية القدس، إنما إعادة تعريف الأخلاق، أو تأكيد لتعريف للأخلاق عرفتهُ الثورة الفلسطينيَّة من قبل، وكان هو السائد، وهُو المتناسق مع الواقع الفلسطيني. الذين تم قتلهم في الكنيس، ليسوا يهوداً وإن كان دينهم كذلك، وليسوا مدنيين، وإن كانوا بشراً. بل، هُم إسرائيليون يحملون الهويَّة الإسرائيلية، ويقيمون معبدهم ليس في قمة جبل بعيد نائي، بل على أرض دير ياسين، التي ارتكب أسلافهم مذبحة دير ياسين فوق أرضها، وقد اشتمَّ عدي وغسان رائحة الدماء مرةً أخرى، وثأروا لهم، وتخلَّصوا من عجزهم. ومن الجيد القول إنَّ أحد القتلى، هو حاخام كبير في حركة شاس الصهيونيَّة، الفاعلة في عملية التهويد والمطالبة بالمزيد منها، ودعم حركات صهيونيَّة تقوم بأعمال قتل وتنكيل للفلسطينيين، كحركة دفع الثمن.
هذا الكنيس اليهودي، هو إحدى ركائن الحرب الصهيونيَّة في مدينة القدس، وأنا لست فقط أسخر ممَّن يدَّعي عدم أخلاقية هذه العملية فقط، بل أرى أنَّ هذه العملية، أصابت العنوان الأكثر صحَّة في مدينة القدس وفي كل فلسطين، وهُو الصهيوني المتطرف، الذي يُشكل نبضَ الكراهية والتحريض ضد الفلسطينيين. وهُو العنوان الظاهر المعلن للتهويد، ولطرد الفلسطينيين من بيوتهم، وهُو رأسُ الأفعى في الصراع الدائر في القدس.
والأخلاق، تتراجع، لأنّ الأخلاق بلا قوَّة، هِي ليست أخلاقاً بل انبطاحاً، والقوَّة بِلا أخلاق، هِي ليست قوَّة بل همجيَّة. والأخلاق والقوَّة اجتمعتا في هذه العملية، فكانت الأخلاق، التي لم ترضَ بعمليات الشنق، والتهويد، والسلب، والقتل، والاعتقال، والذل، وكان ردُّ الأخلاق الفلسطينية هو كلمة واحدة، وهي الكرامة. واجتمعت هذه الأخلاق، مع القوَّة، التي تمثَّلت في قوَّة الإرادة وسطوتها في الاقتحام والتنفيذ والتخطيط، والتغلُّب على كل العوائق الممكنة في مدينة مدججة بالسلاح وبالشرطة الصهيونيَّة وجيش الاحتلال.
ما لا يُدركه «الإنسانويون الفلسطينيون»، هُو أنَّهم في إعادة تعريفهم للإسرائيلي، كإنسان، لَن يُقابلوا بذات الفعل والتعريف. لأنَّ الفكر الليبرالي، وهُو الفكر الذي ينطلق منه الإنسانويون الفلسطينيون وغيرهم من إنسانويون العالم الثالث عموماً، هُو فكرٌ إقصائي لكلِّ ما هو ليسَ أبيض، وفي داخل هذا الفِكر نفسه، وفي داخل المجتمع الأوروبي والغربي عموماً، هُو فكرٌ إقصائي لكل من لَا يملك، ولكل من هو فقير، وفي بعض الأحيان، للمرأة حتّى. والسؤال المَطروح هُنا، إذا كان الفكر الليبرالي ومؤسساته التي تُطالب مجتمعاً، كالمجتمع الفلسطيني، بالابتعاد من الهويَّة الفلسطينيَّة التي تُطالب بالحقوق الفلسطينيَّة كاملة، بالابتعاد من هذه الهويَّة، والانضمام إلى الهويَّة الإنسانيَّة العالميَّة (وهِي الهويَّة الأوروبيَّة الغربيَّة، هذا هُو المَقصود بالإنساني العالمي، لأنَّ الغَرب عموماً اختارَ لنفسه أن يكون هُو الفكر العالمي، وليسَ جزءاً من الفكر العالمي)، وعندما يختار بعضُ أفراد هذا المجتمع الانضمام، هَل سيقبل الغرب بهم؟ هَل سيقبل الإسرائيلي بهم؟ أم أنهم سيصطدمون بواقع التمييز بَين ما هو متفوق من حيثُ الجنس واللون والعرق، وبين ما هو أقل درجة.
ولا حاجة لِي للعودة إلى التاريخ، أو أيَّة أمثلة تاريخيَّة، ولأنَّ المجتمع الصهيوني هُو المستهدف في هذا المقال، نستطيع أن نَرى الإنسانويَّة الصهيونيَّة في تمييزها بيَن ما هو متفوِّق «إسرائيلي أشكينازي أوروبي أبيض» وبَين ما هو أقل «إسرائيلي أفريقي أسود» لا يُقبل دمه بالتبرعات. فَكَيف إذن، علَينا أن نعرِّف الأخلاق، على أنَّها التعامل مع المجتمع المُستعمِر على أنَّه إنسان، وننسى أنَّ الأخلاق في كونها أخلاقاً، إنَّما هي دِفاعٌ عن الذاتِ الإنسانيَّة المنتهكة كرامتها والمهانة، وهي في سموِّها إنَّما تَسعى لتحقيق الحريَّة، وليس المُساواة بَين القاتل والضحّية.
وفي السياق ذاته، السياق الإنسانوي الفلسطيني، نجدُ تغيَّر المفاهيم، ونجدُ أنَّ هذا السياق لا يكون دائماً معلناً وواضحاً، بل يختبئ في أحيانٍ كثيرة، تحت ستارات مختلفة. وفي قمَّة هذه السياقات، هِي سياقات إعادة تعريف النضال والحق في النضال، وكَيف يكون ومتى. فالحديث عن حقِّ الفلسطينيين في النضال من أجل حقوقهم، والحديثُ عن حق الفلسطينيين في النضال عموماً، يَجبُ أن يتوقَّف، وهُو الحديثُ الذي يتبنَّاه الإنسانويون الفلسطينيون.
إنَّ حديثاً عن الحق، وفي ظلِّ عملية لبرلة شرسة للسوق الفلسطينيَّة وللمجتمع الفلسطيني عموماً، وتحويل نسيج المجتمع الفلسطيني من مجتمع تعاضدي، جماعي، إلى مجتمع يبحث فيه الأفراد عن همومهم الشخصيَّة ومصالحهم، وبذلك، تحوِّلهم سياقاتهم الأكاديميَّة في الجامعات والمدارس، والاقتصادية في الشركات والحكومة والبنوك وغيرها من أماكن العمل، تحوِّلهم جبراً إلى أن يكونوا أفراداً. وفي ظلِّ كل هذا، تبرز لنا كلمة، الحق في النضال، مع كل هذا السياق، لتحوِّل الحقَّ الجماعي إلى حق فردي، يُمكن التخلي عنه، أو ممارسته بأقلِّ الوسائل تأثيراً، وربما بالوسائل ذات التأثير المنعدم.
ولذلك، وفي سياق البَحث في المفردات الإنسانوية الفلسطينيَّة، ربَّما علَينا، أن نلغي كلمة الحق في النضال، لصالح، كلمة الواجب في النضال. صارَ لازماً أن تكون المقاومة في خطاباتنا واجباً، لتحوِّل الحق من حقٍ فردي، إلى واجبٍ جَماعي، ونزعه من يدِ المؤسسات والمراكز الحكوميَّة والحزبيَّة، التي تقوم باستخدام هذا الحق في وقتٍ وسياقاتٍ تخدم مصالحها ومصالح أفرادها. والمقاومة يجب أن تستمر، لتتحوَّل إلى قوَّة الإجبار على الاعتراف بوجود المقاومة، وهذا ما فعله الشهيدان وغيرهما من نساء ورجال القدس.
وعليه، فإنَّ المقاومة مطلوبة وبشدَّة أكبر، لأنَّ الاعتراف في الضحيَّة، يبدأ بالمقاومة، ليتحوَّل الضحيَّة بعد ذلك إلى مقاوم، له الحق في المقاومة، ومن ثمَّ عندما تزيد، تصبح الضحيَّة المقاومة، طرفاً يستعدُّ المجتمع الدولي لسماعه والاعتراف بحقوقه وتنفيذها، وهُو المجتمع الذي يُشكِّل عنوان الأساس في خطابِ الإنسانوي الفلسطيني، في ما يخصُّ الأخلاق، وما يخصُّ الحق في النضال، وما يخصُّ كلُّ شيء.
في النهاية، من الجيِّد أنَّ هذا الخطاب الإنسانوي قد تمَّ العمل عليه من رأس الهرم في البنية السلطوية والمؤسساتية في الضفة الغربية، سواء كانت حكوميَّة أم غير حكوميَّة. ولذلك، فهو يَبقى خطاباً رهيناً لأزماته التي ستواجهه بعد قليل، ولَن يصمد أمامها طويلاً، وعودةً لِما ذكرت سابقاً، فإنَّ بداية الصدام سيكون الصدام مع الاحتلال الصهيوني الذي يَرى فيه إنساناً ما، وهُو بذلك، سيُدرك أنَّ لا مَكان لحوار الإنسان ـ الإنسان، بَين قاتلٍ وضحيَّة، أو بَين مَن يعتقد بالتفوُّق وبَين مِن يُسحَر بهذا التفوق ويتخلَّى عن جلده وهُو ما زال تحت الحصار.