تقول لزوجها في لحظة يأس: «ليس هذا وادي الأردن ولم نعد في عام 1937، ولم تعد هنالك تعاونيّات ولكن سلسلة متاجر وحسب، لقد تغيّر الواقع ونحن وحيدون. صرنا عبئاً. لا أريد أن أكون هنا، أشعر بأنني أجنبية».
معروفٌ أن نظرة الأجيال في إسرائيل إلى دولتهم تغيّرت منذ قيام الدولة على أنقاض بيوت الفلسطينيين إلى يومنا هذا، ما يمكن قراءته في الصحف والكتب ومشاهدته في الأفلام يشير إلى أن الجيل الحالي في الدولة العبرية (الطامحة لتكون يهودية بشكل رسمي) أميل للعلمانية منه للتديّن، وأن الشباب هناك لم يعد يأخذون مسائل كـ«شعب الله المختار» و«أرض الميعاد» مأخذ الجد، هم أميل للبراغماتية سياسياً والمادية اجتماعياً، بما يتماشى مع صهيونيتهم بطبيعة الحال.
وليس المقصود هنا التطرف الأرثوذكسي اليهودي، الحاريديم، بل فكرة «اليهودية» كجامع ديني أسطوري ومصيري للممٍ من شعوب أخرى تمّ تجميعها لأسباب ظاهرها ديني في فلسطين، فكرة الجماعة الدينية لم تعد تروق لكثير من أبناء أكثر من جيل إسرائيلي.
لكن هنالك بعداً آخر يوثّق هذه الفجوة بين الأجيال الأولى المؤسسة للصهيونية، منذ الهجرات أوائل القرن الماضي حتى سبعينياته، وبين الجيل الحالي، الشباب. يخصّ هذا البعدُ الصهيونيةَ كإيديولوجية «علمانية» بمعزل عن التغليف الديني لها، فالحركات الصهيونية بدأت الترويج لإسرائيل كدولة اشتراكية تقوم على تعاونيّات عمّالية وزراعية (الكيبوتس)، وهي أساس الحركات الاستيطانية التي بدأت قبل قيام إسرائيل بعشرات السنين ولم تنته إلى يومنا هذا. هو جيل اشتراكي آمن بإسرائيل كـ»الدولة- الحلم» للعمال اليهود، ومن هنا فقد أسّس وقاد إسرائيل في مراحلها الأولى حزب العمل، الاشتراكي الصهيوني اليهودي غير المتديّن.
المخرج الإسرائيلي أمير مانور ينقل في فيلمه الروائي الأول «خاتمة» خيبةَ الجيل الصهيوني المؤسس لدولة الاحتلال كنموذج اشتراكي يجمع يهود العالم في دولة رفاه اجتماعي. ليس في الفيلم أي إشارة لحلم تلمودي أو وعد ربّاني، بل لحلم الصهاينة «العلمانيين» الكلاسيكي في بناء دولتهم، هذا الحلم الذي عبّر عنه العديد من منظّري الصهيونية، من بينهم آرون دافيد غوردون، أحد أبرز منظّري الايديولوجية الصهيونية.
في الفيلم الذي يصوّر يوماً من حياة زوجين عجوزين ممّن هاجروا من الصهاينة الأوائل إلى فلسطين ما قبل عام النكبة 1948، نراهما (هايوتا وبريل) وحيدين في بيتهما، ابنهما الوحيد ترك «دولتهما» ولحق مستقبَله وعملَه في نيويورك، لا تزورهما غير موظّفة التأمين الصحّي، منعزلين لا عن الناس فحسب (لا نرى في الفيلم حياة اجتماعية ولا معارف أو أصدقاء)، بل عن الفكرة الصهيونية التي أتوا إلى البلد من أجل تجسيدها. الزوج (بريل) يذهب إلى مكتبة تبيع وتشتري الكتب المستعملة ليعرض عليها كتباً صهيونية كلاسيكية، من بينها كتاب للمنظّر غوردون وعليه توقيعه، يرفض العامل الشاب في المكتبة شراءها بأكثر من مئتي شيكل معلّقاً أن أحداً لم يعد يقرأ كتابات «مفكّرين يهود اشتراكيين»، يضيف: «لقد تطوّرنا، لا نحتاج للإيديولوجيا لتوحيد الشعب»، يرفض العجوز بيع كتبه التنظيرية لحلمه الصهيوني بهذا المبلغ التافه ويعيد كتبه إلى حقيبته، ليخرجها ثانية ويبيعها، مدفوعاً بعوزه، مقابل المبلغ المذكور.
كان العجوز في أربعينيات القرن الماضي قائداً عمّالياً، نراه حتى اليوم يحاول إنشاء جمعيات تعاونية إحياء للفكرة الصهيونية الكلاسيكية، من دون أن يلقى تجاوباً من أحد، ليقضي وقته في محاولة تصليح تلفاز في شقته الصغيرة في تل أبيب، فيتسبّب بانقطاع الكهرباء عن البيت بأكمله.
لا يعود انعزال الزوجين إلى الفجوة التي تفصلهما عن أغلبية الأجيال اللاحقة في إسرائيل، غير المعتقدة لا بإسرائيل كحلم تلمودي من جهة، ولا كحلم صهيوني من جهة أخرى (وإن كانوا صهاينة بمعنى أكثر ملاءمة للواقع)، بل يعود كذلك إلى الفجوة التي تفصل بين ما حلموا لأجله وهاجروا لأجله إلى فلسطين، وبين ما آلت إليه حال الدولة العبرية غير المكترثة بجيلها المؤسّس، فهذا القائد العمّالي السابق اضطر لبيع كتبه مقابل مبلغ زهيد، كما أنه أراد رهن ساعته لاستئجار ثوب يهديه لزوجته، وهو لا يملك أن يسدّ جوعها بغير فطيرة جبنة ليس في الثلاجة ما هو أفضل منها، وزوجته كذلك لا تملك أن تدفع ثمن دوائها فتتخلى عن بعضه وتخرج من الصيدلية بما استطاعت دفع ثمنه. فلا تأمين صحّي ولا مخصّصات تقاعد ولا حتى بطاقة مواصلات، توفّرها الدولة لهم. تقول لزوجها في لحظة يأس: «ليس هذا وادي الأردن ولم نعد في عام 1937، ولم تعد هنالك تعاونيّات ولكن سلسلة متاجر وحسب، لقد تغيّر الواقع ونحن وحيدون. صرنا عبئاً. لا أريد أن أكون هنا، أشعر بأنني أجنبية».
يحيل عنوان الفيلم إلى خاتمة لكتاب أو مسرحية تعرض تلخيصاً أو عبرة مما تقدّم، ونحن هنا أمام خاتمة لحلم صهيوني بدأ كدولة اشتراكية ورفاه اجتماعي ووعود لا حصر لها لليهود كي يهاجروا إلى فلسطين، وانتهى بتسوّلٍ (شريحة بيتزا في آخر مشهد من الفيلم) وعزلةٍ عن الآخرين، عدا عن انعدام الأمن والاستقرار، وهو ما بنت عليه إسرائيلُ حجّتها لاستقدام مهاجرين يهود من العالم كلّه إلى فلسطين.
الفيلم بالمناسبة صهيوني، أي أنّه يصوّر حياة الزوجين متعاطفاً مع حالتهما، منتقداً النظام الصحّي ومجمل مرافق الدولة في إسرائيل التي لا تعبأ بهؤلاء، وهم من مؤسسي الدولة. مخرج الفيلم شاب، لكنه يحرص على أن يُظهر تعاطفاً اجتماعياً مع هايوتا وبريل من خلال شباب آخرين، في الصيدلية ومحل تأجير الملابس ومطعم للبيتزا، تعاطفاً لا يمت لصهيونية الزوجين بصلة، بل هو اجتماعي بحت. أما الشاب العامل في المكتبة فلم يبد أي تعاطف تجاه بريل حين كان الحديث عن كتب صهيونية.
وإن أراد المخرج التعاطف مع الزوجين كتمثيل للجيل المؤسّس لدولة الاحتلال، إلا أن الفيلم يصوّر على المقلب الآخر ما يستدعي هذا التعاطف، وهو ما أشرت له بعزلة الصهيونية الكلاسيكية عن المجتمع الإسرائيلي الحالي الذي «حدّث» في صهيونيته ولم يعد يقرأ كتباً كلاسيكية.
يصوّر الفيلم كذلك نموذجاً آخر من الشباب من خلال ابنهم الذي ترك إسرائيل ليعيش في نيويورك، وهذا خيار الكثيرين من الجيل الحالي، الذي فضّل الأمن والنجاح في بلد «أجنبي» (قد يكون بلده الأصلي) على القلق والمحدودية في بلد وعدتهم بها أساطيرهم اليهودية وكلاسيكياتهم الصهيونية.
الفيلم كعمل فنّي لم يلق نجاحاً، خرج إلى الصالات الأوروبية هذا الصيف، التقييمات لم تكن مشجّعة، فمجلّة «تيليراما» الفرنسية المتخصّصة بالسينما والتلفزيون منحته أسوأ تقييم ضمن تقييماتها الرّمزية التي ترفقها بتعليقاتها على الأفلام، كما أنه لم ينل جائزة في مهرجان إلا في أحد المهرجانات السينمائية الهنديّة.
لا تكمن أهمّية الفيلم في كونه عملا سينمائيا، بل في ما يحاول انتقاده أو عرضه، أي الحالة المذمومة في المجتمع الإسرائيلي، مذمومة بالنسبة لهم، وما هو بالنسبة لمُشاهد متضامن مع الحق الفلسطيني حالة حميدة، فنوافق تماماً على ما قالته هايوتا لزوجها عن شعورها بأنها باتت «أجنبيّة هنا»، كما نشجّع رغبتها في «ألا تكون هنا».