بعيداً عن الخوض في دهاليز السياسة الأمريكية وما تتمتع به من براغماتية تتقن الانتقال من مكان إلى آخر عبر انعطافات تختلف درجة حدتها حسب أهمية الموضوع الذي يدفع صناع القرار الأمريكي إلى تغيير الوجهة المباشرة للدفة.
بقلم د. حسن أحمد حسن
بعيداً عن الخوض في دهاليز السياسة الأمريكية وما تتمتع به من براغماتية تتقن الانتقال من مكان إلى آخر عبر انعطافات تختلف درجة حدتها حسب أهمية الموضوع الذي يدفع صناع القرار الأمريكي إلى تغيير الوجهة المباشرة للدفة، فمن المسلم به أن الثابت الوحيد في السياسة أنها متغيرة، وما يحكمها بالدرجة الأولى هو المصالح وليس أي أمر آخر، وهذا يدفعني للتساؤل هل الإدارة الأمريكية قادرة على التسليم بانتصار الدولة السورية؟ وبكلام آخر: هل من مصلحة واشنطن تهيئة البيئتين الإقليمية والدولية لانعطافة نوعية عنوانها الاحتكام إلى الواقعية السياسية والميدانية والتسليم ـ إن لم يكن بانتصار الدولة السورية فعلى أقل تقدير ـ بإخفاق مشروع إسقاط هذه الدولة؟
تساؤل أظنه مشروعاً، وهو ويراود أذهان الكثيرين من أبناء سورية ومحبيها، كما يراود أعداء الشعب السوري وأطراف التآمر والعدوان على الدولة السورية ومن يدور في فلكهم من حلفاء وأتباع وأزلام وأدوات مأجورة متعددة الأشكال والمسميات، وقبل تقديم مشروع إجابة على مثل هذا التساؤل العريض ينبغي الإجابة على تساؤل آخر وهو: هل حققت واشنطن أهدافها أو بعض تلك الأهداف من الحرب التي فرضت على سورية بخاصة، وعلى المنطقة عامة؟
إن الاحتكام إلى الموضعية والعلمية في الإجابة على هذا السؤال يتطلب الاعتراف بأن ما سمي الربيع العربي قد قدم لواشنطن وحلفائها الكثير، وقد لا يكون مبالغاً في الأمر إن قيل إن هذه الحرب الجديدة التي رعتها واشنطن من أنجح الحروب الصهيو ـ أمريكية على المستوى التكتيكي، وإن كانت تحمل مؤشرات إخفاقات استراتيجية خطيرة تنتظر الدور الأمريكي إقليمياً ودولياً، ولعلها المرة الأولى التي يتمكن فيها أنصار اليمين الأمريكي المتصهين من إلحاق خسائر كبيرة مادية وبشرية بمن يعدونهم أعداء من دون أن يكلفهم ذلك قطرة دم واحدة أو دولاراً واحداً، فالتخريب الذي طال البنية التحتية على امتداد الجغرافيا السورية كبير، والخسائر البشرية التي عصفت بالسوريين مدنيين وعسكريين فادحة، وإن كانت أقل بكثير مما كان مخططاً له، ناهيك عن تضييق الخناق أكثر فأكثر على الأطراف الدائرة في الفلك الأمريكي كما هو الحال في تركيا ومشيخات الخليج، فالرَسَنُ الأمريكي أصبح أكثر صلابة في أشداق أولئك على عكس ما يتم تسويقه في الإعلام من تمرد تركي وغضب سعودي أو خليجي، وما العنتريات التي تضمنها خطاب أردوغان وغيره من المسؤولين الأتراك إلا نتيجة طبيعية لآثار السياط الأمريكية التي لسعت ظهور أولئك قبل زيارة جون بايدن إلى تركيا وبعدها قصاصاً مشروعاً ـ وفق الفهم الأمريكي ـ على الإخفاق المدوي في تنفيذ التعهدات التي أطلقها أردوغان وأوغلو وزبانيتهما عبر الادعاء بالقدرة المطلقة على إسقاط الدولة السورية في غضون أشهر قليلة، ولعل هذا ما دفع واشنطن لإسقاط الكثير من الأقنعة دفعة واحدة.
وعندما جاءت النتيجة معاكسة لما تم رسمه والتعهد به كان حشر المقصرين بالزاوية المظلمة ضرورة أمريكية لتهيئة البيئة الاستراتيجية التي تضمن الانعطافة الأمريكية بأقل خسائر ممكنة، وكل ما نسمعه من صراخ و»هوبرة» أردوغانية يصب في خانة توزيع الأدوار وتكاملها لا أكثر ولا أقل، وما الشروط التي أعلنها أردوغان كمقدمة لقبول الانخراط في الحلف الذي تقوده واشنطن إلا المهام التي أوكلها لأُجَرَائِه في داعش وجبهة النصرة وغيرهما من منظمات إرهابية عجزت عن إقامة منطقة عازلة يحلم بها أردوغان.
وأمام العجز عن إيجاد معارضة وازنة يمكن المراهنة عليها سياسياً، والعجز عن إيجاد جسد مسلح يمكن الوثوق به، وأمام افتضاح حقيقة الإرهاب الممنهج واتساع دائرة رفضه في أوساط الرأي العام الأمريكي والأطلسي والعالمي، وأمام صمود الدولة السورية ورباطة جأش قيادتها والإنجازات النوعية اليومية التي يراكمها الجيش العربي السوري لم يعد أمام واشنطن إلا التسليم بالأمر الواقع ومحاولة المناورة والمداورة لتأجيل الاعتراف بانتصار الدولة السورية، وهذا يتطلب الاستمرار باستنزاف قدراتها الاقتصادية والبشرية.
وقد غدا واضحاً أن الرافعة التي لا غنى عنها للوصول إلى ذلك تكمن في إسناد دور المشاغب لكل من الرياض وأنقرة لتصعيد الخطاب السياسي والاستمرار بتدريب المرتزقة وزجهم في الداخل السوري انتقاماً من الشعب العربي السوري على تمسكه بانتمائه لوطنه وإخلاصه لدولته، في حين تأخذ واشنطن دور الحريص على مكافحة الإرهاب وتسعى بشتى السبل للتدخل بالشؤون الداخلية للدولة السورية ومحاولة انتهاك سيادتها تحت ذريعة مكافحة الإرهاب.
هذه الأسطوانة المشروخة أصبحت معروفة بشكل جلي لدى سورية وحلفائها وأصدقائها، وأصبح من المسلم به الحكم المسبق بالفشل لكل محاولات الاستفراد بسورية عبر الإغراء أو الإطراء، فلا التهديد ولا الوعيد، ولا الوعود ولا التودد غيَّر منْ مواقف أصدقاء سورية، لا بل ازدادوا اقتناعاً بأهمية الدور السوري، وضرورة دعمه أكثر فأكثر لأن خطر نجاح أطراف التآمر والعدوان في النيل من الدولة السورية سيقوض وإلى عشرات السنين أي آمال بالتخلص من الأحادية القطبية التي تمنح واشنطن مزيداً من السطوة والنفوذ والهيمنة والاستفراد بالقرار الكوني، وهو ما يتناقض والمصالح الحيوية للقوى الفاعلة والصاعدة على المستويين الإقليمي والدولي، وفي ضوء هذا يمكن فهم الصفعة الروسية التي طالت الدبلوماسية السعودية ورفض استقبال سعود الفيصل من قبل سيد الكرملين.
ومن الجدير بالذكر هنا تفنيد ما حاول بعض الأقلام المأجورة تسويقه على أن سبب الموقف الروسي يعود لخلافات في الأسرة السعودية الحاكمة وأن الإرهابي بندر بن سلطان وراء رفض القيصر استقبال وزير الخارجية الوهابية، والسؤال البدهي الذي يفرض نفسه هنا هو: هل يعقل أن يراعي الكرملين رغبات من هدد باستهداف الألعاب الرياضية الشتوية في سوتشي وأخفق في تنفيذ تهديداته؟
من كل ما تقدم يمكن الوصول إلى نتيجة رئيسة مفادها: إن كل ما قامت وما تقوم به واشنطن حتى الآن لا يخرج عن استراتيجية تفتيت المنطقة المعتمدة رسمياً لدى جميع مفاصل صنع القرار الأمريكي لضمان استمرارية الأحادية القطبية، وأي مناورة أو تغيير في السياسة الأمريكية يصب في خانة الاضطرار وليس إعادة الحسابات والنظر في تلك الاستراتيجية التدميرية، ومن الطبيعي أن يدفع هذا الأمر أطراف المشروع الآخر إلى مزيد من التنسيق والتعاون وأخذ جميع السيناريوهات المحتملة بجدية تامة تفوت على أصحاب الرؤوس الحامية أية فرصة لمحاولة خلط الأوراق في المنطقة من جديد، وبخاصة أن المعالم الرئيسة والآفاق الاستراتيجية للمواجهة المفتوحة أصبحت أكثر تبلوراً وتجسيداً على أرض الواقع، وما تم تجاوزه من حلقات هذه الحرب القذرة هو أكثر بكثير مما تبقى في جعبة الظلاميين والنازيين الجدد، وإن كان بعض قصارى البصر والبصيرة يرون عكس ذلك.
http://thawra.sy/_View_news2.asp?FileName=14583885420141205143102
موقع المنار غير مسؤول عن النص وهو يعبّر عن وجهة نظر كاتبه