ويشير المؤلف بقوله «داعية» ردا على من يكفر الشيخ أو يفسقه أو يشكك في أهدافه من حيث الجملة، وقوله «ليس نبيا» رداً على من يغلو فيه وينزله منزلة الأنبياء المعصومين. لذ لا يجوز أبدا أن نقلده فيما أخطأ فيه، شأنه شأن غيره من البشر
"داعية وليس نبياً" يعدّ من أهم الكتب الجريئة التي كتبها الشيخ حسن فرحان المالكي السعودي، المعتقل حالياً، والذي نشأ بسببه جدلاً حاداً في المملكة العربية السعودية، التي تبجّل مقام الشيخ محمد بن عبد الوهاب تبجيلاً يبلغ حد القداسة.
وبعض شيوخ الوهابية صنّفوا الشيخ المالكي بأنه خرج عن السلفية ويمالئ المذهب الشيعي في هذا الكتاب، مع أنه لم يتطرق فيه لا من بعيد أو من قريب إلى ما يقولونه الشيعة في الإمام الوهابي.
"داعية وليس نبياً" كتاب يستحق القراءة لما جاء فيه من جرأة في الطرح ورؤية واضحة, فالمؤلف جاء من رحم المدرسة السلفية، وهو ملتزم بمنهج البحث العلمي المعتمد لدى هذه المدرسة، كما أنه موضوعي في رؤيته لأفكار هذه المدرسة والمدارس الإسلامية الأخرى المخالفة للمدرسة السلفية. احتوى الكتاب على أربعة مباحث رئيسة: المبحث الأول قراءة في كشف الشبهات «مع كتاب التوحيد من أشهر كتب الشيخ»، المبحث الثاني قراءة في أقوال الشيخ ورسائله «الدرر السنية نموذجا»، المبحث الثالث المسيرة تتواصل، المبحث الرابع مع خصوم الشيخ ومعارضيه.
يقسّم المؤلف كتابه إلى أبواب يفصّل فيها ما جاء في كتابي "التوحيد" و"كشف الشبهات" للوهابي ويبيّن في نسق من الأدلة والبراهين كيف قام الشيخ الوهابي بشطحاته الدينية وبتأسيس ظاهرة التكفير في الإسلام بعد ابن تيميه وفاق رؤية فقهية لم تثبت عند أحد من علماء المسلمين من صدر الإسلام إلى اليوم.
إثبات منهج التكفير عند محمد بن عبد الوهاب :
والمالكي مع أنه يصف في كتابه إمام مذهب الوهابي بأنه شيخ فقيه حنبلي "نجلّه ونحترمه" و "نشكر له الدعوة لتنقية التوحيد مما لحقه من شوائب عند كثير من العوام، ولكن هذا لا يعني أن الشيخ أصاب في مسائل التكفير". المالكي يرى أن الوهابي أصاب فد عدد من القضايا التي طرحها باستثناء الغلو في التكفير وما تبعها من استباحة دماء المسلمين وغيرهم. ويؤكد أن التكفير في منهج الشيخ محمد بن عبد الوهاب ثابت في مؤلفاته ورسائله، وفيما ينقله المعارضون عنه، وفيما دونه المؤرخون عن تلك المرحلة. إلا إنه يرى أن الوهابية الرسمية اليوم ليست على منهج الشيخ في التكفير، وبقي على منهجه جماعات التكفير المعاصرة، وبعض السلفيات المحلية التي خارج السلطة.
من هنا يوصي الشيخ المالكي بفتح المجال لدراسة الفكر الوهابي بوصفه إنتاجاً بشرياً قابلاً للخطأ والصواب، مثل سائر الإنتاجات المذهبية والفكرية، وأن يتم فسح المجال أمام الكتب التي تنحو منحى المراجعة لفكر الشيخ، أسوة بالكتب التي تناقش تيارات ومذاهب أخرى، وأسوة بالكتب التي تغلو في مقام الشيخ. وهو رغم قوله هذا لا يبتعد عن روح الوحدة الإسلامية إذ يقول "يجب مع هذا كله أن تتآلف القلوب حتى مع وجود النقد والحدة العلمية، فاختلاف الرأي لا ينبغي أن يفسد أساس الأخوة الإسلامية".
والشيخ المالكي يطالب الدولة السعودية في هذا الإطار بدور كبير فمن باب العدل ألا يقتصر الخطاب الداخلي على فئة دون فئة، وألا يكون الخطاب الديني الرسمي مستفزاً للمذاهب الإسلامية الموجودة داخل الوطن وخارجه، أما الخطاب غير الرسمي فمن الصعب السيطرة عليه، والعدل الذي يجب على دولة أن يكون لكل مذهب دروسه وكتبه ومنابره ومساجده ودراساته ومدارسه العلمية، دون أن يعتدي أحد على أحد، فمن حرض منهم على عنف أو تكفير للطرف الآخر فيجب إتاحة الفرصة للطرف الآخر أن يردّ ويدفع عن نفسه ظلم المكفرين، هذا على أقل تقدير، وهذا لا يعني ترك المحاورة بالتي هي أحسن، ولا المناظرة الأخوية ولا النقد العلمي المسؤول.
وفي التبيان جاء في مقدمة الكتاب عشر مسائل تمهيدية، بحثت الأولى منها في تحديد شخصية الشيخ محمد بن عبد الوهاب وتعريفها. فكون الشيخ داعية وإصلاحي وليس نبياً - من الناحية النظرية عند المنصفين- إلا أن الخلاف مع فئتين من الناس – كما يقول المالكي:
1- مع من يكفره الشيخ محمد ابن عبد الوهاب أو يفسقه أو يشكك في أهدافه، فهؤلاء لا يسلمون بأنه داعية أو إصلاحي.
2- مع من يمنع من مراجعة إنتاج الشيخ محمد ابن عبد الوهاب وتقييم منهجه ويأبى تخطئته فيما أخطأ فيه، فهؤلاء قد أنزلوه منزلة الأنبياء المعصومين.
مقام "الوهاب" عند أتباعه : غلو ما بعد غلو
ويشير المؤلف بقوله «داعية» ردا على من يكفر الشيخ أو يفسقه أو يشكك في أهدافه من حيث الجملة، وقوله «ليس نبيا» رداً على من يغلو فيه وينزله منزلة الأنبياء المعصومين. لذ لا يجوز أبدا أن نقلده فيما أخطأ فيه، شأنه شأن غيره من البشر، من علماء ودعاة وطلبة علم، فإذا كنا نقبل تخطئة أبي حنيفة والشافعي وأمثالهم «بل نرى بعض المتعصبين للشيخ يقبل بكل سهولة تخطئة كبار الصحابة مثل عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأبي ذر رضي الله عنهم وأمثالهم ولا يقبل مجرد تخطئة الشيخ، فهذا هو الغلو في الصالحين الذي ننكره بحق قولا وفعلا". ويؤكد المالكي إنه وجدنا في هذا الإنكار الأذى من هؤلاء الذين يقولون إنهم يحاربون الغلو في الصالحين فكيف لا نقبل تخطئة الشيخ محمد بن عبد الوهاب؟ مع أنه أقل من هؤلاء علما وأثرا بإجماع المنصفين من أهل العلم.
المسألة الثانية يطرح فيها المؤلف مقام الشيخ محمد بن عبد الوهاب بين الغلو في تقليده والغلو في ذمه. فالشيخ كسائر المشهورين، الناس فيه بين قال مفرط في الذم والهجاء، وغال مفرط في المدح والثناء. والمؤلف حاول جاهدا أن يكون في الأمر وسطا، وأن يعرف ما له من حق حسن، فيكون الحق لأهله دون مجاملة لباطل في رده. وبيان أخطاءه للناس بالدليل والبرهان حتى لا يتأثر بها وينساق خلف المغالين من أتباعه الذين أساءوا له بتعصبهم أكثر مما أحسنوا. والغلبة اليوم لهؤلاء المتعصبين، وهم الذين قصدهم المؤلف بهذه الدراسة، الذين اشتدت المحنة بتكفيرهم واستحلالهم لدماء مخالفيهم من جميع فرق المسلمين وتشتد المحنة ليأتي الجاهل منهم ليقول: "نحن على منهج سلفنا لا نرتضي بهم بدلا ولا نرضى عنهم حولا، فهم سلفنا الصالح ولنا منهجنا الواضح. فيبق الناس من الجانبين في طخية عمياء".
ولهذا يطالب الشيخ المالكي أهل العلم بأن يكونوا في مستوى المسؤولية والشجاعة ببيان أخطاء العظماء بعلم وأدب وإنصاف، فلا يجرمنهم غلو أتباعهم في الاعتراف بفضلهم، ولا يدفعهم ظلم الخصوم للتخندق مع أخطائهم تجاوزاتهم.
والمسألة الثالثة، التي يطرحها المؤلف هي حول استخدام مصطلح الوهابية. فهو يرى أنه ليس من باب الذم وإنما من باب كونه مصطلحا أطلقه أغلب المسلمين على «تيار فكري حركي دعوي له تاريخه وخصائصه ومصنفاته وشيوخه» كما أن بعض الوهابية قد أرتضى هذا اللقب وأطلقوه على أنفسهم. ويقول إنه لا يشترط أن يقوم الشيخ نفسه بتسمية مذهبه، بل كل أئمة المذاهب فيما يعلم لم يسموا مذاهبهم، وإنما سمى الناس مذاهبهم بعد موتهم. فلا أحمد بن حنبل سمى المذهب الحنبلي ولا الشافعي سمى الشافعية ولا أبو حنيفة سمى المذهب الحنفي، ولا مالك سمى مذهبه، ولا الإمام جعفر الصادق (ع) سمى الإثني عشرية أو الإمامية ولا غيرهم من الأئمة المتبوعين أصحاب المذاهب سموا مذاهبهم، بل ولا سمى ذلك تلاميذهم الخاصين وإنما جاءت التسمية فيما بعد نتيجة استقراء خصائص كل مذهب.
إلا أن هناك قضية في غاية الأهمية طرحها المؤلف في المسألة الرابعة، وهي أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب لم يكن وحده في العلم والدعوة. إذ يظن أتباعه بأنه كان وحيد دهره في العلم، وأن البلاد الإسلامية التي لم يدخل أهلها في دعوته، كانت بلاد شرك وكفر وأن علماء تلك البلاد جهلة لا يعرفون من الدين شيئاً. والمؤلف يردّ عليهم هذا الاعتقاد مستجلباً التاريخ الإسلامي وما فيه من علماء عظام قدموا للدعوة الإسلامية خدمات جلية.
والمسألة الخامسة: كيف أحتكر الغلاة الوهابية والدفاع عنها، يوضّح المؤلف هذه القضية بأنها نشأت بمسوغات عصبية كانت من تداعيات اشتداد الخصومة بين الوهابية وغيرها من المذاهب ساعد على بروز التيار المغالي من أتباع الشيخ فأخذوا على عاتقهم الدفاع والرد وأصبح لهم مع الزمن حق النطق باسم الدعوة واحتكار الدفاع عن العقيدة السلفية والغلو في ذم المخالفين مع الغلو في الدفاع عن أخطاء الشيخ. واليوم، يقول الشيخ المالكي تجد غلاة السنة «النواصب» أخذوا يلمزون علي بن أبي طالب باسم السنة ويثنون على معاوية ويزيد وشيعتهم باسم السنة، ومن ينقد هؤلاء الغلاة يصبح معرضاً للاتهام بالتشيع والرفض. ومن علامات المغالي في الشيخ أنه لا يقبل نقد الشيخ ويستعظم تخطئته، كما أن المغالين من الطرف الآخر لا يقبل وصف الشيخ إلا بكل سوء لذا فالطرفين من المغالين ليس عندهم استعداد للحوار الهادئ البعيد عن التعصب.
كيف نوقف إحتكار التيار المغالي للوهابية ؟!
ويطرح المؤلف رأياً يرى فيه حلاً حول كيف نوقف احتكار التيار المغالي للوهابية؟. فهو يقترح مراجعة إنتاج الشيخ وفكره لتدعيم الصواب وتجنب الأخطاء. وإن التكفير الذي وقع فيه أتباع الشيخ، أوقع كثيرا من طلبة العلم فيه إما تقليدا أو مغالاة. وإن إحجام كل طلبة العلم في المملكة تقريباً عن بيان تلك الأخطاء، رغم الحاجة الماسة للمراجعة يؤسس للعصبية وللاحتقان المذهبي في الوطن. فمن حق كل طالب علم وكل مواطن في المملكة أن يطرح ما يراه مخرجاً من دوامة العنف والتكفير لحماية الدين والوطن من التلوث بالتكفير الظالم أو الدماء المعصومة.
وذكر نماذج من أخطاء من نعظمهم ونقدرهم كالشيخ محمد وابن تيميه وأحمد ابن حنبل وغيرهم. إلا الشيخ المالكي يؤكد أنه لا يجب خلال القيام بهذه المراجعة جعل محمد بن عبد الوهاب نبيا معصوما، بل نخضع أقواله لأحكام الشريعة، ولا نجعله فوق الشرع، بل هو وكل العلماء محكومون بالشرع، كل يؤخذ من قوله ويرد وكل يستدل لقوله لا بقوله وكل لم ينزل من السماء. وبأن الكل مأمور بالرجوع إلى الأدلة الشرعية لا إلى أقوال الرجال. ويختم بالقول إنه من رأى حبنا لهم يمنع من نقدنا لهم فهو مغال فيهم، ومن رأى أن نقدنا لهم يمنع من حبنا لهم فهو مغال ضدهم.
وما يثر حنق الشيخ حسن المالكي أن هناك غلاة ينهون عن الغلو ..! إذ ألا يخجل أولئك الذين يحاولون أن "يركبوا الجملين جميعا"، فيردّون على أهل التكفير ويبقون على التكفير، يهاجمون من وقعوا في متشابه التكفير ويغلون في الدفاع عن أخطاء ابن تيمية وأئمة الدعوة في التكفير ؟!!. هؤلاء الغلاة أصبحوا يردّون على تيار العنف التكفيري بأدلة العلماء الذين كانوا يردّون بها على الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فكأنهم بهذا يردون على الشيخ محمد مع غلوهم فيه ومنعهم من مراجعة إنتاجه وتقييم منهجه بهذه الطريقة التي تجمع بين أبلغ المتناقضات.
إن كان هذا التناقض عن جهل، فلا مانع من التصحيح والرجوع عن الأخطاء، وإن كان تناقضهم عن علم وسياسة، فالله حرّم التلون والظهور بوجهين، ونقول لهم: "إن كنتم رادين على هؤلاء الشباب التكفيري، فعليكم أن يكون جوابكم مقنعا بنقد الأصول التي رجعوا إليها والعلماء الذين قعدوا لهذا التكفير والعنف، ضد علماء وحكام زمنهم. وان كنتم تدافعون عن ابن تيمية والشيخ محمد وعلماء الدعوة وترونهم مصيبين فيجب أن تدافعوا عن هؤلاء الشباب التكفيري، لأنهم مقلدون للعلماء الذين منعتم من نقدهم، وأخذوا من الكتب التي علمتموهم إياها وأوصيتموهم بها". ويؤكد المؤلف في ختام كلمته هنا إنه "لا خير فينا إن كان حرصنا على تبرئة الشيخ وعلماء الدعوة أكبر من حرصنا على تبرئة الإسلام نفسه من تنظيرات المتبوعين وممارسات الأتباع".