وكلّ اقتصاديّ في لبنان مؤمِنٍ بأنّ الحلّ الأفضل للخروج من الدوّامة هو خصخصةُ الإدارة بات متّهَماً بالتعاطف مع الحيتان، وحتى مجرّد الكلام عن الخصخصة أصبح مرفوضاً في جوّ من الفساد الهائل المتحكّم بهذا البلد.
لمناسبة اليوم العالمي لمكافحة الفساد والذي صادف أمس، يطالعُنا مؤشّر مدركات الفساد Corruption Perception Index لعام 2014، وقد تراجَع لبنان مجدّداً. فقد حازَ على درجة 100/27 (العلامة على 100) مسجّلاً تراجعاً في مستوى النزاهة بالنسبة إلى العام الماضي، حيث كان في الدرجة 28، كما احتلّ لبنان المرتبة 136 من أصل 175، بعدما كان في المرتبة 127 من أصل 177 في العام الماضي.
الوزير السابق فادي عبود
إذا استطعنا خلقَ تعليم بالمستوى المطلوب، قد نصل إلى مجتمع منتج وقادر على فرض نفسه بين بقيّة الدوَ+T
ويمرّ هذا المؤشّر مرور الكرام على رغم خطورة الوضع الراهن واستمرار التدهور في النموّ الاقتصادي على الصُعد كافة، والنتيجة واحدة ومؤلمة، لم نُحقّق حتى اليوم أيّ نجاح على صعيد مكافحة الفساد ورفع مستوى الإنتاجية.
وخطرَت في بالي مقولة للرئيس الاميركي الأسبق رونالد ريغان الذي قال إنّ العبارة الأكثر رعباً في اللغة الإنكليزية والمؤلّفة من 9 كلمات هي: «I am from government, I am here to help».
إنّ هذا الكلام الذي يختصر أداء القطاع العام في أميركا، ربّما يصلح جيّداً لوصف الحال العامّة في لبنان. فشلت الدولة في تحقيق أيّ نتائج واضحة، ولم يتمكّن القطاع العام حتى اليوم من إجراء إصلاح جدّي لرفع إنتاجيته، وحتى الخَصخصة في لبنان تحوّلت عملية مشبوهة تَقاسَمَ فيها أصحاب النفوذ الأرباح، فكانت تجارب الخصخصة في لبنان من أسوئها على الإطلاق والأمثلة على ذلك كثيرة، من الخلوي، النفايات، السوق الحرّة، الميكانيك، مغارة جعيتا، ألخ.
فبدلاً من خصخصة مفتوحة لجميع اللبنانيين لشِراء أسهم لشركات تبقى ملكاً للشعب وتشمل آلاف اللبنانيين، اقتصرَت الخصخصة على أصحاب النفوذ، وحتى محاولة توزيع الأسهم على عدد من اللبنانيين وغير اللبنانيين في شركة سوليدير، لم تتمّ بشكل شفّاف وعادل، بل تحوّلت جمهورية سوليدير التي يحقّ لها ما لا يحقّ لغيرها، والتداول بالأسهم لم يكن شفّافاً وخاضعاً لقوى السوق. وتحوّلَت هذه الشركة استثمارات خارج لبنان وتمَّت إدارتها بلا أيّ محاسبة، وأصحاب الأسهم آخر مَن يعلم، كالزوج المخدوع.
وفي ظلّ هذا الجوّ من الحصَص السياسية وسيطرة أصحاب النفوذ، واستغلال المراكز السياسية للسيطرة على المقدّرات، بات الحديث عن أيّ خصخصة في لبنان خيانة عظمى، تستوجب ردّات فعل، خصوصاً من الأحزاب اليسارية التي ما زالت تُبشّر بأهمّية الحفاظ المعنوي على الملك العام، بصرفِ النظر عن الإنتاجية والخسارة التي تتكبّدها، وقد تكون هذه الأحزاب هي الوحيدة في العالم التي لا تزال متمسّكة بهذا الاقتناع، بصَرف النظر عن النتائج، فحتى حزب العمّال في بريطانيا بات مقتنعاً بأنّ القطاع الخاص تحت إشراف الهيئات العامّة قد يكون الأفضل للفعالية الاقتصادية.
وكلّ اقتصاديّ في لبنان مؤمِنٍ بأنّ الحلّ الأفضل للخروج من الدوّامة هو خصخصةُ الإدارة بات متّهَماً بالتعاطف مع الحيتان، وحتى مجرّد الكلام عن الخصخصة أصبح مرفوضاً في جوّ من الفساد الهائل المتحكّم بهذا البلد.
المواطن اليوم يسأل لماذا لا تدير بلدية بيروت المسلخ كما يجب، ولا يسأل إذا كانت بلدية بيروت قادرة على إدارة مسلخ بيروت أم لا؟ وهل من الحكمة في عالم الاقتصاد الطلب من بلدية بيروت إدارة مسلخ يؤمّن 4 في المئة من حاجات بيروت؟
فهل الدولة اللبنانية والطيران المدني أصحاب اختصاص بإدارة المرفأ أو المطار، فكيف يؤمن اللبنانيون اليوم مثلاً بضرورة خصخصة النفايات ولا يؤمنون بخصخصة الكهرباء؟ بكلامٍ آخر، أصبح الكلام عن الخصخصة وكأنّه تجديف، وقد يكون من أهمّ المواضيع التي يجب علينا بحثها، والمرتبطة ارتباطاً مباشراً بمستقبل لبنان.
المقصود اليوم أنّنا في ظلّ الأرقام التي تتراجع يوماً بعد يوم في لبنان إنْ كان على صعيد الشفافية والنزاهة أو الفعالية الاقتصادية، نحتاج إلى تفكير مختلف ومُغاير، فقد أثبتَت طرقُنا القديمة يوماً بعد يوم عدمَ جدواها، وبتنا رسمياً من الدوَل الأكثر فساداً على الصعيد العالمي.
واليوم قد يكون من المواضيع الأكثر أهمّية التي يجب بحثها والمرتبطة ارتباطاً مباشراً بمستقبل لبنان وقدرته على الاستمرار والتقدّم هو مستوى التعليم الرسمي، فإذا استطعنا خلقَ تعليم بالمستوى المطلوب في لبنان، قد نصل إلى مجتمع منتِج قادر على الاستمرار وفَرضِ نفسِه بين بقيّة الدوَل بدلاً من الاستمرار في التراجع المخيف، واستسلام تامّ من كلّ الأطراف لتثبيت فشلِنا الكبير عن بناء الدولة. المعلّم ليس راضياً ويَعتبر مدخوله من التعليم غيرَ كافٍ ومستوى التعليم الرسمي غير مقبول أبداً، والدليل أنّ أساتذة التعليم الرسمي يُعلّمون أولادَهم في مدارس خاصة.
لقد أجرَت بعض المؤسسات التعليمية في لبنان تجاربَ في شأن الكلفة الحقيقية لتعليم رسمي بمستوى عالمي، وكانت النتيجة أنّ معدّل الكلفة في التعليم الابتدائي والثانوي يبلغ نحو 3 ملايين ليرة لبنانية سنوياً لتقديم تعليم بمستوى متقدّم. من هنا يجب أن نفكّر جدّياً باعتماد خصخصة شريفة ونظيفة وعادلة تصل إلى جميع اللبنانيين بلا استثناء. من خلال تلزيم التعليم الرسمي إلى القطاع الخاص الذي أثبتَ من خلال النتائج أنّه في المستوى المطلوب.
وللتذكير فقط، فإنّ نسبة الغشّ في الامتحانات الرسمية وصلت إلى أكثر من 90 في المئة. ألَا يكفي هذا لفَرض تغيير جذري في التعليم الرسمي في لبنان؟ وسيقدّم هذا النظام الجديد حلولاً للجميع، فيتمّ تقدير الأساتذة الموهوبين من القطاع العام عبر حصولِهم على الرواتب التي يستحقّونها من جهة، وسيحصل التلميذ على مستوى تعليمي متقدّم من جهة أخرى.
ونشعر اليوم بأنّ الوقت اليوم مؤاتٍ لإجراء التغيير الجذري المطلوب، فالحكومة تضمّ وزير تربية آتٍ من تجربة عريقة في التعليم وفي إنشاء المؤسسات التعليمية الناجحة، منفتح على تغيير الطرُق التقليدية في التعليم، وزير مُصِرّ على تحقيق نتائج فاعلة على مستوى التعليم الوطني.
مهما كانت الحلول والوسائل، خصخصة أو غيرها، النتيجة واحدة، وهي أنّ الاستمرار بهذا الشكل سيُفقِدنا كلّ مقوّمات الوجود. إنّ انحدار لبنان بهذا الشكل المأساوي عالمياً وسمعة لبنان المتدهورة لهما تبعات اقتصادية كبيرة، إنّ استمرارَ الفساد يُفقِدنا شبابَنا وفرَصَ عملِهم وفرَص إنتاجهم، حيث لا وطن لإنسان لا يستطيع أن يبدع ويعمل فيه ويُحقّق أبسط حقوقه الإنسانية وكرامته كمواطن.