قليلة هي الزيارات الرسمية التي تشغل المراقبين والإعلام والسياسيين وصناع القرار ـــ الأصدقاء منهم والخصوم على السواء - مثلما تفعل عادة زيارة الرئيس الروسي إلى جمهورية تركيا
إستراتيجية الطاقة في العلاقات التركية ـ الروسية:
باتر فخر الدين
قليلة هي الزيارات الرسمية التي تشغل المراقبين والإعلام والسياسيين وصناع القرار ـــ الأصدقاء منهم والخصوم على السواء - مثلما تفعل عادة زيارة الرئيس الروسي إلى جمهورية تركيا. ويتضاعف الترقب وتزداد التوقعات إثارة وأهمية مع وجود رئيسين جدليين بحجم فلاديمير بوتين ورجب طيب إردوغان على رأس هاتين الدولتين الكُبريين.
وإن كان يحلو للإعلام الغربي أن يضرب مقارنة بين الزعيمين التاريخيين لناحية نزعتيهما التسلطية وميلهما إلى التوتاليتارية وحكم الحزب الواحد والرجل الواحد، إلا أن بعضاً من الإنصاف يلحظ مقارنات أخرى من قبيل نهوض كل منهما ببلاده من موقع الضعيف سياسياً واقتصادياً إلى موقع قوي ذي نفوذ عميق في السياستين الإقليمية والدولية.
ففلاديمير بوتين أنقذ روسيا من مرحلة التضعضع بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وسار بها من دولة يعصف بها الفساد وتتحكم بقراراتها ثلة من الأوليغارشيين وأصحاب المليارات المحدثين ورجال المافيات وكارتلات الأعمال المشروعة وغير المشروعة، إلى دولة لم تكتفِ باستعادة سيادتها، بل فرضت نفوذها في محيطها وما أبعد من محيطها، واستطاعت أن تكسر أحادية القرار العالمي الذي ساد عقب الانهيار التاريخي لفترة وجيزة.
رويداً رويداً، وبعد لملمة أوراق السياسة الداخلية المبعثرة وسيطرته على الأمن والاقتصاد ومؤسساتهما، واجه بوتين الولايات المتحدة والغرب في مواقع متفرقة ومعارك محسوبة، بدءاً من مولدوفيا وجورجيا وروسيا البيضاء، حتى قمة الصراع الذي لا يزال مستعراً في أوكرانيا حيث سجّل ضربة سديدة وضمّ القرم وسيطر على الأقاليم الشرقية.
من جهته، وفي طريق مشابه في الصعوبة والتحديات، سار رجب طيب أردوغان بتركيا من دولة «ساتيلايت» تدور في فلك «الناتو» وتستجدي أوروبا للانضمام إلى اتحاد يريدها سوقاً استهلاكية وورقة سياسياً، ولا يريدها عضواً مدمجاً بها، إلى دولة صاحبة قرار ونفوذ وثقل استراتيجي.
وفي تماثل شديد مع قصة بوتين، قاتل أردوغان في الساحة الداخلية أولاً وبشراسة قلّ نظيرها، فكسر شوكة العلمانيين الأقوياء، وروّض الجيش التركي المهيب وجنرالاته الأتاتوركيين، وأقصى «الغولينيين» وفكّك شبكتهم المتجذرة في الإدارة والشرطة والقضاء، ثم واجه بطريقته امبراطوريات المال والأعمال المتحكمة بالاقتصاد التركي حتى دانت له السيطرة عليها تماماً، أو كادت، خاصة مع وصول الطبقة البرجوازية المتوسطة - التي بدأت رحلة صعودها معه - إلى مراكز الحكم والإدارة والاقتصاد وأصبح لها كلمة عليا في إدارة شؤون البلاد.
بالتوازي، انطلق أردوغان إلى الديبلوماسية الإقليمية الجديدة التي استلزمت مهادنة ومواجهة وصداقات وعداوات ـــ جدلية في معظمها ـــ وقاد تركيا إلى دولة فرضت حقل نفوذها في الشرق الأوسط وفي البلقان وبعض القوقاز. وتدريجاً كذلك رفع إردوغان من منسوب خلافاته مع الولايات المتحدة وأوروبا، بدءاً من قبرص وأرمينيا والعراق وأربيل وإسرائيل، وصولاً إلى قمة الخلاف في الملف السوري بمقدماته ومساره ونتائجه.
على أن الملاحظة المهمة هنا أنّ كلا المشروعين التركي والروسي، مشروعان مستقلان قائمان بذاتيهما، ليس بالضرورة أن يتكاملا ولا أن يتواجها – ليس الآن على الأقل - برغم بعض نقاط التماس بينهما في القوقاز وبعض الشرق الأوسط. فالأخطار المحدقة بالمشروعين لا تتأتى من أحدهما ضد الآخر، والقيادتان الحاذقتان تدركان هذا خير إدراك. الخطر الكبير، والذي يكاد أن يكون شبه الوحيد، على كل من المشروعين يأتي من الغرب (أوروبا والولايات المتحدة) الخصم الحقيقي المشترك للدولتين الفتيتين. خطر هذا الغرب يأتي من خوفه من استقلال موسكو وأنقرة باستراتيجيتهما وتحولهما إلى مركزي قرار خطيرين بكل ما تملكانه من قوة كامنة: روسيا بقوة «الطاقة» الاستراتيجية وترسانة السلاح العظيمة، وتركيا بقوتها التاريخية والجغرافية والجيوسياسية المدعومة باقتصاد شاب طموح.
بعد هذا لا يعود مهماً على ماذا اتفق الزعيمان في القمة الأخيرة وعلى ماذا اختلفا. فجدول أعمال القمة لحظ قبل انعقادها «اتفاقهما على الاختلاف» حول مجمل مواضيع سياسية في مقدمها الملف الأوكراني، حيث ترفض تركيا إجراءات موسكو هناك وتطالب بوحدة الأراضي الأوكرانية وتبدي قلقها الكبير على الأقلية التاتارية (التركية) في القرم. وفي المقابل، تختلف روسيا كلّياً مع المقاربة التركية للأزمة السورية منذ بدايتها، وفي معظم تفاصيلها (مصير الأسد وموقعه في سوريا الجديدة، الفصائل المعارضة، مسار جنيف، المنطقة العازلة، دور الدول الإقليمية...).
وبعد هذا، لا يعود مهماً تصنيف القمة، سياسية أم اقتصادية. فمتى كان فصل هذين البعدين ممكناً أصلاً؟ ولا يعود مهماً كذلك الغوص في أرقام الاتفاقات وحجمها. ونعم، فإن شئنا التصنيف، فقد جاءت القمة اقتصادية بحتة في شكلها ومضمونها؛ ولكنها استراتيجية خطيرة في نتائجها وانعكاساتها. لقد كرست القمة ــ وبشكل نهائي ــ استراتيجية العلاقة بين روسيا وتركيا من باب الاقتصاد، بل من باب الطاقة تحديداً.
وهكذا، عكس دوي قنبلة بوتين بإعلانه عن وقف موسكو العمل بمشروع أنابيب «ساوث ستريم» استراتيجية «اقتصاد الطاقة» في العلاقات الدولية الحالية. واقتصاد الطاقة هذا هو البعد شبه الوحيد الذي يربط روسيا بأوروبا برباط هو أشبه بزواج الإكراه، ويربط روسيا بتركيا برباط أشبه بالمصاهرة السياسية أو زواج المصلحة.
ولعل أهم ما جاء في القمة وفي تصريح بوتين هو تثبيت عامل اقتصادي جديد - للمرة الأولى بشكل رسمي ــ على أجندات السياسة الدولية. عامل بدأ يرسم استراتيجيات اللاعبين الكبار ويشكل التحالفات ويغير في خريطة الأحلاف الدولية في مشارقها ومغاربها، بل لعلّه يغيّر في خريطة الدول ذاتها: عنيتُ به أنابيب نقل النفط والغاز ومصادر الطاقة الأخرى.
فإعلان الرئيس الروسي إلغاء مشروع أنابيب «ساوث ستريم» ليس مجرد حدث اقتصادي يوقف العمل بمشروع قُدّرت تكلفته الأولية بعشرة مليارات دولار ثم ارتفعت إلى 30 ملياراً في 2014، وكَلّف شركة «غازبروم» الروسية العملاقة حتى الآن حوالي 4.5 مليارات دولار. إن إلغاء المشروع والإعلان عن بديل له يعادلان بلغة السياسة إلغاء حلف وإنشاء آخر مع قوى جديدة مختلفة.
كان من المفترض أن ينقل مشروع خط أنابيب «ساوث ستريم» الغاز الطبيعي من البر الروسي، تحت البحر الأسود، إلى جنوب أوروبا ووسطها ــ بلغاريا وصربيا والمجر واليونان وسلوفينيا وكرواتيا والنمسا. وكان الغرض الأساسي من هذا الخط ربط أوروبا بروسيا من دون المرور بأوكرانيا التي كانت تنقل حوالي 80 في المئة من الغاز الطبيعي الروسي إلى أوروبا.
وهكذا، وبإلغاء المشروع واقتراح خط أنابيب روسي ــ تركي مباشر، «تُبَعثر» موسكو شبكة الطاقة في المنطقة، وتعيد تشكيل شبكة أخرى ينتج عنها ديناميات جديدة من العلاقات السياسية بكل تداعياتها. إن القرار «الاقتصادي» الروسي بإلغاء مشروعٍ كان أصلاً يهدف إلى الضغط على أوكرانيا وبعض الدول الأوروبية الجنوبية الشرقية، سيضرّ بعلاقات موسكو السياسية مع بعض شركائها الأوروبيين في المشروع. وبالإضافة إلى الخسائر الاقتصادية الكبيرة لـ «دول الترانزيت» التي وُعِدت بعائدات ضخمة وفرص عمل كثيرة واستثمارات مرادفة للمشروع، سيتكبد بعض هذه الدول خسائر سياسية، مثل المجر وصربيا اللتين أنفقتا قدراً كبيراً من «رأس المال السياسي» في تحدي الاتحاد الأوروبي لدعم بناء خط الأنابيب هذا.
أما في حساب ميزان الأرباح والخسائر الروسي، فيبدو أن موسكو ترى أن ما ستجنيه من إلغاء مشروع وإحياء آخر سيفوق ما تتكبده من خسائر وخاصة السياسية منها. فإنشاء مسار إمداد الغاز إلى تركيا مباشرة ــ وهي المستورد الأكبر للغاز الطبيعي الروسي ــ من شأنه أن يعطي موسكو المزيد من المرونة في توريد مصادر الطاقة إلى أوروبا. فهذا الخط سيدعم شبكة خطوطها قيد الخدمة اليوم عبر بيلاروسيا وأوكرانيا وألمانيا (Nord Stream)، وخطين إلى تركيا واحد عبر البحر الأسود (Blue Stream) الذي يتمّم الخط البري عبر أراضي أوكرانيا، ومولدوفيا، ورومانيا، وبلغاريا.
سياسياً كذلك، تتخلص موسكو من ضغط أوروبي شديد عليها كان سيجبرها على التخلي عن ملكية خط الأنابيب «ساوث ستريم» تماشياً مع شروط الاتحاد الأوروبي التي تمنع أن تكون ملكية الأنابيب وإدارتها في يد الجهة نفسها المنتجة لمصدر الطاقة. وهذا الشرط، كما يبدو، وضع خصيصاً لكسر احتكار روسيا المطلق على توريد الطاقة إلى أوروبا. هذا بالإضافة إلى ما يراه بعض الإقتصاديين من أن ثقل فاتورة المشروع المادية على شركة الغاز الروسية العملاقة «غازبروم» كان أيضاً أحد العوامل التي ساهمت في اتخاذ القيادة الروسية هذا القرار التاريخي.
أما الرابح الأكبر الذي خرج منتصراً من هذه المنازلة سياسياً واقتصادياً واستراتيجياً فهو تركيا. فمشروع الأنابيب الجديد ـــ إن تحقق ـــ سيعزز من حلم أنقرة بأن تتحول إلى «مركز عالمي للطاقة» (Energy Hub Global) وتقاطع لخطوط نقلها، تماماً مثلما أضحت اسطنبول مركزاً لتقاطع الخطوط الجوية العالمية. فعلاوة على التخفيض بقيمة ستة في المئة الذي ستحصل عليه تركيا على فاتورتها من الغاز الطبيعي الروسي كجزء من صفقة بناء الخط الجديد، وعلاوة على زيادة حجم الغاز إليها عبر أنبوب «Blue Stream» من 16 إلى 19 مليار متر مكعب سنوياً، فإن تدفق الغاز الطبيعي إلى تركيا مباشرة من روسيا من دون المرور بدولة ثالثة يعطي الاقتصاد التركي اطمئناناً لطالما افتقده مع عبور معظم استهلاكه بدول غير مستقرة سياسياً وأمنياً كأوكرانيا مثلاً. ثم إن جعل تركيا محطة لتوزيع حصص الدول الأوروبية من الغاز الروسي، عبر محطات تسييل وتوزيع ونقل، وبواسطة شبكة أنابيب تديرها تركيا على حدودها مع اليونان كما هو مقرر مبدئياً، يعطي تركيا ورقة قوة سياسية واقتصادية واسعة النفوذ.
تبقى إشارة إلى بعض ما قد يواجه المشروع من عقبات قد تعيقه أو حتى تطيح به. فبعض خبراء الطاقة يرى أن الخط المقترح قد يكون ناجحاً «سياسياً وجيوبولوتيكياً»، لكنه غير قابل للتحقيق تجارياً وسيبلى بالفشل بسبب تكلفته العالية، تماماً مثل مشروع «Nabucco Pipelines» الذي كان مقرراً له أن ينقل الغاز الروسي إلى وسط أوروبا، وأثبت أنه مشروع طموح سياسياً إلى درجة لا يمكن معها تحقيقه تجارياً. صحيح أن الأنابيب التي بنتها «غازبروم» في المشروع الأول غير المكتمل يمكن استخدامها في المشروع الجديد، إلا أن ما يتبقى من تكاليف هائلة قد لا يمكن لهذه الشركة العملاقة «المنهكة» تحمله، خاصة مع العقوبات الأوروبية الجديدة على روسيا.
بالإضافة إلى ذلك وعلى الجانب التركي، سيكون على أنقرة ترتيب اتفاقات مع كل من أذربيجان وتركمانستان وكازاخستان لنقل الغاز الروسي الذي سيأتيها من المشروع الجديد عبر البر التركي إلى حدودها مع اليونان. ذلك أن تركيا ستستخدم في نقل الغاز الروسي إلى أوروبا خط أنابيب عبر الأناضول (Trans-Anatolian Pipeline (TANAP) الذي يعبر أراضيها من الشرق إلى الغرب، والذي استثمرت فيه أذربيجان لنقل إنتاجها من الغاز الطبيعي إلى أوروبا عبر تركيا.
ومن الغرب، تفاوض تركيا على ربط شبكتها بخط (Trans-Adriatic Pipeline) (TAP) الذي سينقل الغاز الأدري من اليونان عبر ألبانيا والبحر الأدرياتيكي إلى إيطاليا ومنها إلى دول غرب أوروبا. كذلك تتفاوض تركيا مع تركمانستان منذ مدة في موضوع ربط شبكتها بخط عبر بحر قزوين «Trans-Caspian Pipeline» المقرر له نقل الغاز الطبيعي من كازاخستان وتركمانستان إلى وسط أوروبا متجنباً المرور بأراضي روسيا أو إيران.
خريطة معقدة من شبكات أنابيب نقل الطاقة تستولد خريطة معقدة من العلاقات الدولية. وقد قَدَّرتِ الجغرافيا أن يكون لروسيا وتركيا دور خطير في تكوين هذه الشبكات الاقتصادية والسياسية. فهل يتكامل الدوران وتتأسس علاقة جديدة بين روسيا القيصر وتركيا السلطان محورها الطاقة وأنابيبها، فتنتهي بذلك تلك العلاقة الباردة شديدة الحساسية التي تضرب جذورها في حرب الأمبراطوريتين 1768-1774 ومن بعدها في حرب القرم 1853-1856؟
http://assafir.com/Article/1/389620
موقع المنار غير مسؤول عن النص وهو يعبّر عن وجهة نظر كاتبه