إنه فيلم يقطر مرارة إزاء تناقضات، وكذب، ونهم الغزاة وافتقادهم لأبسط الأحاسيس الإنسانية، فيلم عن الضحايا السود في أفريقيا، عن شخصياتهم، وذكائهم الفطري، عما يعانون منه على أيدي الغزاة البيض، فيلم تأصلت فيه السخرية
منذ ما يزيد على نصف قرن ابتكر المفكرون في جامعات ومعاهد البلاد الرأسمالية الكبرى تعبير ما بعد الكولونيالية، مدعين بذلك أن عصر الاستعمار انتهى، وأن جميع البلاد التي كانت مستعمرة نالت استقلالها.
مرت الأيام واكتشفت الشعوب التي كانت مستعمرة أن الاستقلال الذي حصلت عليه كان استقلالاً شكلياً، أن الكولونيالية لم تنتهِ، وإنما اتخذت شكلاً جديداً وتركيباً مختلفاً، أن هناك استعماراً جديداً أشد ضراوة من ذلك الذي كان سائداً في السابق، وأن ضحاياه موجودون في العالم الذي سمّاه هؤلاء المفكرون العالم الثالث، ثم أطلقوا عليه وصف الجنوب.
تهديد بالقتل
في مهرجان القاهرة السنيمائي الدولي الذي تم تنظيمه من 9 إلى 18 تشرين الثاني (نوفمبر) عرض فيلم وثائقي للمخرج أوبير سوبير عنوانه «جئنا إليكم كأصدقاء». كان سوبير قد قرر أن يخرج ثلاثة أفلام وثائقية، الأول عن العولمة أي عن النظام العالمي، الثاني عن العبودية والثالث عن الكولونيالية أو الاستعمار الجديد. أنجز منها حتى الآن فيلمين اسم أحدهما «كابوس داروين» الذي تلقى بسبب موضوعه تهديدات بالقتل، والثاني هو «جئنا إليكم كأصدقاء» الذي شارك في إنتاجه، وفي كتابة السيناريو الخاص به، ثم قام بإخراجه.
لكن يبدو أن مواهبه تمتد إلى مجالات أخرى، فقد شارك أيضاً في بناء الطائرة البدائية التي طار بها إلى جنوب السودان ليبدأ مع فريقه في تصوير فيلم أختار الاستعمار الجديد ومظاهره في أفريقيا موضوعاً له، وعلى الأخص في جنوب السودان الذي أنفصل عن الشمال عام 2011 ليصبح أحدث بلد يطلق عليه وصف المستقل. ذلك أنه سرعان ما انقضت عليه الطيور الجارحة لتغرس مناقيرها وأظفارها في اللحم الحي لسكانه، ولتجردهم من الأراضي التي يعيشون عليها، من خشب الغابات التي ترتفع أغصانها في سمائهم الزرقاء، من معادنها ومن النفط الراقد تحت الأرض فيها.
هكذا أتيح لعدد كبير من المشاهدين الذين حضروا المهرجان أن يتتبعوا هذا الفيلم الوثائقي النادر في موضوعه وفي أسلوب إخراجه لمدة مئة وخمس دقائق، أن يجوبوا مع الكاميرا في أنحاء البلاد ليروا ما يجري فيها، ليلتقوا بسكانها السود، بنسائها، وأطفالها ورجالها، بالذين يكسرون كتل ضخمة من الحجر بمزربة ليحولها نساؤهم إلى دبش صغير يصلح لتعبيد الطرق التي ستكون وسيلة لنقل الخيرات إلى خارج البلاد، ليشاهدوا قراهم وقد تحولت إلى أكشاك هزيلة في أرض جرداء تذروها رياح عاصفة، ليقتربوا من وجوه حفر فيها الجوع بأزميله، ليتفرسوا في أجساد من العظم لا يكسوها سوى الجلد، ليسمعوا شكوى الذين وقعوا ضحايا نصب الغزاة فوقّعوا عقوداً تعطي شركة أميركية حق الانتفاع بستمئة ألف من هكتارات الأرض وما فيها من معادن، أو نفط، أو خشب أشجار الغابات أو أشياء أخرى لمدة تمتد إلى خمسين عاماً في مقابل خمسة وعشرين ألف دولار. وكل هذا باسم الاستثمار والتنمية التي ستعود بالخير الوفير على الذين يعيشون عليها.
تتحرك الكاميرا لتلتقط ما تقوله العيون الضائعة الباحثة عن ملاذ. تقترب من الوجوه ليقرأ المشاهد ما تقوله الملامح عن عذاب الحياة أو تصور الفرحة البريئة في بياض الأسنان، في حركة الأجسام ترقص احتفالاً بمشروع لإدخال الكهرباء في قرية تقوم بتنفيذه الهيئة الدولية الأميركية للتنمية بينما لا يوجد في هذه البيوت طعام للصباح. تصور الصينيين أتوا كالجراد ليستخرجوا ثلثمئة ألف برميل من النفط يومياً من آبار حفروها، ويسمموا المياه فيموت سكان المنطقة عندما يشربون منها. تتبع أحد المسؤولين في الشركة عندما يصطحب المصور في سيارته سائراً على طريق طوله ميل توجد على جانبيه أكوام مرتفعة من الفضلات فإذا سئل يجيب أن تسمم المياه، وتسمم البيئة والفضلات هي مشاكل يقع على عاتق السكان المحليين أن يبحثوا عن حلول لها.
الكاميرا تصور بينما يلتقط الميكروفون الكلام التلقائي الذي تنطق به شفاه جافة تشقق فيها الجلد واللحم في بعض الأحيان. الكلام ساخر أحياناً، ضاحك أحياناً حزين وغاضب، والمخرج لا يوحي إلى هؤلاء المعذبين في أرضهم بشيء. يريد أن يتحدث الواقع، أن يتحدث الصدق، والذكاء الفطري في أغلب الأوقات يعبر عن التناقضات والأكاذيب في تصرفات البيض، عن التجربة اليومية تكشف بالتدريج ما يصنعه الرجل الأبيض بالسكان السود، كيف أن الغزاة أتوا لاستغلالهم باسم المساعدة والتنمية في البلاد.
وهكذا يجد المشاهد نفسه مع دوران الشريط وسط الحرب الأهلية التي تفجرت بعد الانفصال، فالحرب مطلوبة حتى ينشغل الناس بالمعارك القاتلة، بنشر الخراب تحت قيادة زعماء مثل سالفا كير نصير المسيحية يرتدي قبعة الكاوباي أهداها له الأميركيون ومشار المسلم يتنازعان توزيع السلطة وملايين الفساد، هذا بينما يتغلغل المستعمر في أنحاء البلاد وتنشط شركاته من دون أن تواجه شعباً متحداً يقاوم الغزاة.
يعرض الفيلم صوراً عن المعارك المسلحة الدائرة التقطها جندي بآلة التصوير في هاتفه المحمول، لنرى برك الدماء، والرؤوس المهشمة، والجثث الراقدة في الأحراش، والدبابات أو العربات المصفحة تتقدم لتحطم ما يوجد أمامها فنتذكر الحوار الذي دار في الفيلم مع رجل عجوز كان يرتدي بنطالاً وقميصاً وقبعة من القطن الأبيض سخر فيه من المخرج قائلاً له أنت تعرف كل ما يجري لنا في البلاد فلماذا تسألني أنا، ثم ينبري بالحديث عن الإنكليز الذين يريدون إعادة احتلال أفريقيا من الشمال حتى أقصي الجنوب بينما الفرنسيون يسعون إلى احتلالها من الشرق حتى الغرب ثم يضيف أن السلاح في الحرب الدائرة مصدره فرنسا.
إرساليات للتمهيد
يقدم الفيلم صوراً تفصيلية عن نشر المسيحية بين القبائل الوثنية للسكان، فيوضح كيف أن الإرساليات المسيحية تمهد الأرض للغزو الاستعماري. من بينها صور لرجل وزوجته من المذهب الإنجيلي جاءا من ولاية تكساس الرجعية العنصرية وقاما بإنشاء مدرسة لتعليم الفتية والفتيات أصول الدين المسيحي الأنجيلي، فنرى الرجل وهو يتحدث إلى سكان أحد المناطق عن قلبه الذي يستجيب لرغبات الرب الأعلى، وكيف يجب أن يكونوا مثله حتى يستمع إليهم ويستجيب لهم. إما زوجته فتريد أن يغطي الأطفال أجسامهم السمراء الجميلة بالملابس والجوارب التي أتت بها من بلادها، وتقول لأمهاتهم أن العري شيء مشين لكن عندما تحاول إلباسهم ما لم يتعودوا عليه ينفجر الأطفال بالبكاء، ويحتمون بأمهاتهم.
هناك رجل أبيض آخر أقام لنفسه منزلاً ضخماً أحاطه بمساحة كبيرة من الأرض طرد منها أصحابها ويقول عنهم إنهم لا يدركون معنى الملكية، فقد أصبح هو مالك هذه الأرض ولم يعد لهم حق فيها. هناك لقطة أخرى تصور مركزاً للاستشفاء أسّسه البيض لأنفسهم، يوجد فيه حمام للسباحة يرقد فيه رجل ابيض ضخم الجثة، منتفخ البطن على «شيزلونج» ليأخذ حمام شمس بينما تدور الحرب التي يتقاتل فيها السود.
ولقطات أخرى للبيض منها جماعة من المرتزقة الذين حاربوا قبل ذلك في فيتنام وبلاد أسيوية أخرى وهم يحتفلون بانفصال جنوب السودان عن الشمال فيفتح احدهم زجاجة تفور منها الشامبانيا ويرش الحاضرين بها، وحفلة أخرى تتمخطر فيها امرأة بدينة وفي يدها كأس من مشروب كحولي وهي تقول السود يحتاجون إلى مساعدتنا.
إنه فيلم يقطر مرارة إزاء تناقضات، وكذب، ونهم الغزاة وافتقادهم لأبسط الأحاسيس الإنسانية، فيلم عن الضحايا السود في أفريقيا، عن شخصياتهم، وذكائهم الفطري، عما يعانون منه على أيدي الغزاة البيض، فيلم تأصلت فيه السخرية منذ البداية في عنوانه «جئنا لكم كأصدقاء»، نال فيه المخرج أوبير ساوبير جائزة خاصة في مهرجان ساندنانس أطلق عليها اسم جائزة الشجاعة السينمائية لأن إنتاج، وإخراج، وتوزيع مثل هذا الفيلم يحتاج إلى شجاعة نادرة، ومن شأنه أن يغضب حكام يملكون وسائل انتقامية شديدة الخطر. نال الفيلم أيضاً أربعة جوائز أخرى منها جائزة في مهرجان برلين الدولي عام 2014 واستغرق إنتاجه ست سنين من العمل المتواصل.