25-11-2024 01:52 AM بتوقيت القدس المحتلة

"مضادات وسجالات ثقافية".. رواية سيرة للحياة الثقافية في لبنان الثمانينيات

كان في الحقبة التاريخية التي نشرت فيها نصوص الكتاب احتكار في عالم الثقافة الصحفي يأبى اختراقه من أي كان، وكان زراقط يحاول تأسيس لمفاهيم نقدية ومنطلقات تكون من صميم القناعات الفكرية، بعيداً عن المفاهيم الرجعية

متى يمكن للأدب أن يشكّل مادة تأريخية تحكي زمناً بعينه يرصد بعين الناقد والأديب والمؤرخ معاً؟!.. وهل يمكن أن تتوفر هذه الخصال كلها عند أديب محدد؟!.. هذا ما أجابت عنه ندوة يوم أمس في المجلس الثقافي للبنان الجنوبي التي خصصت لقراءة في كتاب "مضادات وسجالات ثقافية"، للأستاذ الجامعي والأديب والناقد الدكتور عبد المجيد زراقط. والكتاب يضم بين دفتيه مقالات وسجالات جرت بين الكاتب وبعض المثقفين والنقاد في مرحلة الثمانينيات حيث كانت الأجواء الثقافية أنذاك اكثر حيوية من اليوم.

وُصف الكاتب بأنه صاحب قلم سيال ومعطاء، ويكفيه فخراً أنه جمع في هذا الكتاب حصيدة عشرين عاماً من الانتاج الأدبي الصحافي والنقدي في لبنان. هذا برأي الدكتور نبيل أيوب، الذي تابع قوله شاهداً لزميله زراقط بأنه استخدم كل تقنيات الكتابة من اعتماد التصويب النقدي واعتماد المفارقة والمقابلة وتوظيف السخربة ليظهر الحقيقة التي لا تعرف إلا بالحوار، وكل خطاب موجه للأخر يكمن فيه الخطأ والصواب وهو إذ يجتهد في أن يكون موضوعياً مستنداً إلى قرائن أهمها النص المقروء نفسه لا يدعي أن رأيه يختزن الصواب حتماً في كل مفاصله، ويقدم زراقط إشكالية اليقينيات في استراتيجية الكلام ويؤكد أن البحث عن اليقين والصواب في النص أمر خاطئ. وهو يكثر من تقديم التحليلات ما يعني امتلاكه المعرفة بمحدداتها ومنذ البدابة أعلن أنه يقدم وجهات نظر وليس المعرفة الكاملة. 

ويلج الدكتور أيوب في متن الكتاب ليبين أن الكاتب يظهر متتبعاً بدقة للحدث الثقافي في تلك الحقبة التاريخية منتقداً جريئاً لعدد من الصحف ليس لمركزها الترويجي والإعلاني بل توخى الارتقاء بالكتاب إلى مستوى عال من الثقافية والاكاديمية وهو كان يلمس في القراءات الأدبية والنقدية التي كانت تقدمها الصحف اسقاطات ذاتية ولا يتورع عن اتهام بعض الكتّاب بالإسم بأن ممارستهم للنقد كانت كارثية، ويرى أن الإشهار الثقافي غير متربط بجودة المنشور وقيمته الأدبية ويتهم بعض الصحف بعينها التي تمارس الثقافية المزاجية المرتبطة بالرعايا وعلاقات الأصحاب والعلاقات ليس إلا..بالمقابل طرح معايير ثقافية وأكاديمية لمحاكمة النص الأدبي منتقداً أولئك الذين يجرّون النظريات الغربية بكليتها وتطبيقها على النص العربي. 

والدكتور زراقط، ولا يزال الكلام للدكتور أيوب، يتحدث عن دور الشعراء المحدثين الذين كانوا رواد المقاهي والفنادق في بيروت وعندما كانت بيروت تصاب بالخراب هجروها فمن منهم كتب عن المقاومة وقاماتها ومن منهم ذهب إلى قريته التي كانت تعاني الاحتلال وتغرق في جدارن الظلم والظلام؟!..

الباحث الثاني الدكتور يوسف صميلي قدّم مطالعة مرتجلة حول الكتاب وصاحبه ورأى أن الكتاب منقسم إلى قسمين الأول يتعلق بالشعر والثاني بالنثر، وألفت نظر الحضور إلى علاقته بالدكتور زراقط التي تعود إلى أكثر من ثلاثين عاماً، وهو رافقه تقريباً في معظم مواقفه النقدية وقرأ عن قرب تفسيراته للتراث والمعاصرة، فيخرج بنتجية تقول إن هذا الكتاب هو كتب عن هموم النقد والأدب وأكثر مما هو هجوم النقد. 

وكان الهم الأساس أمام الكاتب كيف يمكن تحقيق الإبداع وهو ما أفاض فيه شرحاً، وهناك اهتمام جاد بالحراك المعرفي والثقافي للنقد الأدبي، إذ إنه تتبع كل المنابر الثقافية والإعلامية فعثر على الإبرة في كومة القش في النقد الأعلامي والصحفي. فقد كان في الحقبة التاريخية التي نشرت فيها نصوص هذا الكتاب احتكار في عالم الثقافة الصحفي يأبى اختراقه من أي كان، وكان زراقط يحاول في تلك الأثناء تأسيس لمفاهيم نقدية ومنطلقات تكون من صميم القناعات الفكرية، بعيداً عن المفاهيم الرجعية التي تقوم على الفرضيات المسبقة.

والدكتور زراقط يضع الأصبع على الجرح حول موضوع المتخيل الأدبي والصدق الروائي، إذ وقف مطولا عند أساليب نقد الشعر والقصيدة متعرضاً إلى تاريخية الشعر في لبنان بتقديم موضوعي مقدماً الشواهد والأدلة على أن الشعر العاملي كان السبّاق على الحلقة الشعرية التي عرفت حلقة الأمير الشهابي. وأهم ما قدمه زراقط، برأي صميلي، أنه كشف زيف بعض الأقلام الرائجة وقام بنقد بناء لعدد من الأفلام السينمائية والمسلسلات الدرامية والروايات المترجمة إلى العربية. وختم صميلي بالقول إن الكتاب هو مضادات حيوية لكثير ما نرى من الزكام في الصحافة الأدبية. 

محمود حيدر ، أستاذ الفلسفة والنقد، قال بأن الكتاب ارتكز قدّم قراءته تحت عنوان "معيارية النقد وأخلاقيته"، إذ رأى أن المطالعة التي يفتتح بها الكاتب كتابه هي أقرب الى التنظير الأخلاقي منها الى ما جرت العادة عليه في التمهيد الى كتب النقد والمناظرة. وتابع موضحاً انتقاده بأن المألوف عن نقاد النص في لبنان والعالم العربي، النظر الى المنقود نظرة المتحرِّي عن تهمة أو منقصة، حتى ليبدو النص الذي بين أيديهم أدنى شبهاً بضحية مسجّاة، ولا همّ لهم إذّاك سوى دفعها الى القبر. مثل هذه الصورة التي يمكن ردُّها إلى سايكولوجية عنف في ممارسة القول النقدي، لم تكن لتنأى بهواجسها عن جملة الأسباب التي حملت الدكتور زراقط على إصدار هذا الكتاب.

فبقدر ما حدته المسؤولية الأدبية لإزالة هذه الصورة، أو للتخفُّف من جَوْرها، كان حريصاً في الآن عينه على إبقاء "شريعة النقد" منهجاً علمياً حافظاً لمنطق النص ومعاييره الجمالية. وربما كانت هذه اللافتة استدراكاً غاب عنه ردحاً في زحام المساجلات التي ملأت الصفحات الثقافية في الثمانينيات، سوى أنها على أي حال، تشي بفضيلة نادرة في عالم النقد.

وتابع الدكتور حيدر مخاطباً الحضور بقوله : "لا أخفيكم أنني استشعرت في تمهيد الكاتب لمضاداتِهِ الأَلمَ. ومردُّ هذا الى ما لم يجده عند بعض "أهل النص" من فهم لفلسفة الاختلاف. كما لو أراد صاحبي ان يستعيد مساجلاته بمكتوب جامع، لا ليستثير انفعالات الغرائز ويعيدها الى غيظها القديم، وإنما الى بسطها على نصاب التحاور البناء. ولقد افترض أن تكون الاستعادة هذه المرة عبر المرور بـ "معمودية الغير".

الدكتور عبد المجيد زراقطكأن يكون هذا المكتوب المتجدد مناسبة للتذكير بحكمة الاختلاف. تلك التي بها تصير الأنا الناقدة موصولة بنفس الغير ومقيمةً معها في منزل واحد. فلو كان هذا هو مسعاه لأصاب الصواب، وطرق باباً لم يطرقه إلا الأقلُّون. واني لست على ريب من صدق نيته في هذا. لكن أنَّى يكون له هذا ومحضرنا العربي لما يزل على جاري أمره من الأنانية وضيق الصدر وعدم الرضى بالغير ورأيه. وأما حال اليوم فهو على نفس ماضيه المستمر في كل مضمار.

ويؤكد الدكتور حيدر أنه ينبغي إذاً، والحال هذه، ان نخصِّص الكلام على المعيارية. أي على المنظومة الفنية والمعرفية التي على ضوئها يُعرف محمود النص من مذمومه. لكن لنتفَّق بدءاً ان الكتابة أمر بديهي، مثلها مثل القراءة. ولأنها كذلك لا يملك امرؤ أن يقول لامرئ لا تقرأ، وكذلك لا يملك ان يقول له لا تكتب. والقراءة والكتابة عرفٌ بشري. فطرتان فُطِرت عليهما نفس الإنسان الناطق. حتى إذا آن أوان التدوين استحالتا جسداً كَمُلَت أوصافه بحروف التهجيِّي.

واختتمت الندوة بكلمة للمؤلف الدكتور عبد المجيد زراقط الذي شكر المنتدين والحضور، وتحدث عن تلك المرحلة التاريخية التي كان يتعرض فيها لهجوم عنيف من بعض المثقفين والنقاد في لبنان إثر مقالاته التقافية والنقدية الأدبية وقصصه المختلفة، وكيف وراجه هذه الهجوم بثبات وتحد تمكن به من تحقيق ما هو عليه الان.