إن تفادي الخطر المحدّق الذي تشكله وحدات المستعربين يحتاج إلى نشر وعي كافٍ بين الفلسطينيين حولهم، وإعادة النظر في آليات وأدوات السيطرة على المدن والقرى الفلسطينية لحمايتها من هجماتهم وتحركاتهم
في وضح النهار، تتجوّل وحداتٌ إسرائيلية خاصّة في جميع أنحاء الأرض الفلسطينية المحتلّة، تجمع معلومات، تلاحق مقاومين فلسطينيين مطلوبين، تنفّذ عمليات اعتقالٍ وتصفية بحقهم. يُطلق على هذه الوحدات اسم "المستعربين"، لكونها تمتزج في المجتمع الفلسطيني ليصعب كشف عناصرها، فهم يتجوّلون، يشربون، ويأكلون مع الفلسطينيين وكأنهم أبناء جلدتهم، ولكنهم يتحوّلون إلى مقاتلين دمويين عندما يحين موعد تنفيذ المهمات.
تشكّلت وحدات المستعربين مع بدء الهجرة الصهيونية إلى فلسطين، فقد كانت بمثابة رأس حربة لمنظمة "الهاجاناه" الصهيونية في اختراق المجتمع العربي الفلسطيني. عملت هذه الوحدات على اطلاع القيادة الصهيونية على المعلومات كافة حول القرى الفلسطينية وتعداد سكانها وطبيعة حياتهم، ووفّرت لها معلومات أخرى كثيرة تسهّل اختراق هذه القرى تمهيداً لتهجيرها. بعد إنشاء دولة الاحتلال إثر نكبة فلسطين في العام 1948، دمجت وحدات المستعربين في جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي "الشاباك" وجيش الاحتلال الإسرائيلي.
عن الوحدة
تمّ تفعيل الوحدة في العام 1988، لإخماد الانتفاضة الفلسطينية الأولى. ويقول أحد المستعربين الذين قابلتهم قناة "الجزيرة" في الوثائقي "الصندوق الأسود" في آذار 2014، إن وحدة المستعربين الخاصة أقيمت في نهاية العام 1988 وبدأت عملها في ذروة الانتفاضة الأولى، فيتجوّل عناصرها في المناطق الفلسطينية كافة متخفّين بزيّ مواطنين فلسطينيين مدنيّين في بعض الأحيان، وتراهم يظهرون بالزيّ الرسمي في أحيانٍ أخرى، ويتم الاختيار تبعاً للمهمة واحتياجاتها. راهناً، توجد وحدتان رئيسيتان من المستعربين، الأولى تدعى "دوفدوفان" وتعمل في الضفّة الغربية، والثانية "شمشون" وتعمل في قطاع غزّة.
كانت "وحدة المستعربين" تعتبر وحدةً سريّة جداً، وتحاط بغطاءٍ أمنيّ شديد، ويمنع نشر أية معلوماتٍ عنها في الإعلام. إلا أن الأجهزة الأمنية في دولة الاحتلال قرّرت، بعد الانتفاضة الفلسطينية الثانية، نشر بعض المعلومات عن عمل الوحدة، نظراً لكونها قد أصبحت معروفة للفلسطينيين، ونتيجة الضغط المحلي والدولي للكشف عن بعض تفاصيل عمل الوحدة أيضاً. وبقي الحصول على المعلومات خاضعاً لرقابةٍ أمنية شديدة من الجيش والأجهزة الأمنية التابعة للاحتلال، ولم تنشر إلا معلومات مقتضبة عن بعض عمليات الوحدة وطريقة تدريبها. فحتى الآن، لا يوجد رقم دقيق لعدد أفراد الوحدة وأماكن تدريبهم وكيف يتم تجنيدهم، ولم يتم الكشف عن أسماء أيّ من قادة أو أفراد الوحدة.
كما يخضع أفراد الوحدة لتعليمات مشدّدة تقضي بالحفاظ على سريّة عملهم، إذ قال قائد وحدة المستعربين الخاصة "الدوفدوفان" (الذي حجب اسمه) لموقع "ويلا" العبري، أن أفراد هذه الوحدة يلتزمون بتعليماتٍ صارمة لحفظ السريّة، فالفايسبوك مثلاً محظور، وكذلك، لا يسمح بنشر أي صورة من داخل أروقة الوحدة أو من خارجها. ويؤكد قائد الوحدة أن عائلة المستعرب لا تعلم عن طبيعة عمله شيئاً، فهنالك تعتيم كامل في هذا الخصوص.
يخضع أفراد الوحدة لتدريبات مكثّفة غير تلك التي يخضع لها الجندي العادي، للتمكّن من إنجاز مهامهم. يتدربون على إتقان اللغة العربية بلكنةٍ فلسطينية، ويتعرّفون على عادات الفلسطينيين وثقافتهم بشكلٍ دقيق، بالإضافة إلى دورات الدراما والتجميل التي يخضعون لها بحيث تساعدهم في عملهم على التخفّي. فهم، في بعض الأحيان، يتقمّصون دور شيخٍ أو امرأةٍ عجوز أو بائعٍ متجوّل أو أفراد في طواقم طبية، ... ويولون اهتماماً لأيّ تفصيل يخدم تخفّيهم: "ارتداء الكوفية، مثلاً"، بحيث يتمكّنون من أن يكونوا فعلياً عيوناً للاحتلال في قلب المجتمع الفلسطيني.
انعدام الثقة والنيران صديقة
لا يكتفي المستعربون بالاختفاء عن طريق التلاعب بمظهرهم، بل يؤدون أدواراً تساعدهم على الاختفاء والتظاهر بأنهم فلسطينيون، فمثلاً، تراهم يتصدّرون في كثيرٍ من الأحيان التظاهرات، ويشاركون في إلقاء الحجارة والهتاف، يشعر المتظاهرون المشاركون في المسيرات بأنهم جزء منهم، ينتهجون سلوكاً يمدّ بقية المتظاهرين بالراحة والثقة. وبحسب الناشطين الفلسطينيين، أدّى هذا الدور التي يؤديه المستعربون الى انعدام الثقة التام بين المتظاهرين.
يقول بعضهم إنهم يشعرون بخوفٍ وقلقٍ مستمرين عند مشاركتهم في تظاهرة أو نشاطٍ مقاوم، لكون المستعربين ينتشرون في كلّ مكان، وأصبح من الصعب كشفهم بين حشود الناشطين. ولكن تكتيكات دخول المستعربين لنقاط المواجهة والتظاهرات أصبحت شبه معروفة لدى الفلسطينيين، فعادة ما يسبق دخولهم حالة هدوء ينسحب فيها الجيش أو الشرطة الى الخلف، وتنخفض وتيرة إطلاق الغاز المسيل للدموع والأعيرة المطاطية، ويعمل المستعربون على تشكيل كماشة حول المتظاهرين بالتعاون مع الشرطة أو الجيش، حيث تتقدّم الشرطة أو الجيش من الأمام ويكون المستعربون بانتظار المتظاهرين الفاريين في الخلف. (اعتقد ان الإجابة على السؤال تحت عنوان "القميص تحت البنطلون" أيضاً).
كذلك، يتسبّب تخفّي المستعربين بصورة مدنيين فلسطينيين إلى استهدافهم من قبل زملائهم في الوحدة أو الجيش. فمثلاً، في 26 آب 1992، قُتل مؤسس ومسؤول "وحدة المستعربين" التابعة لما يُسمّى بـ"حرس الحدود" أيلي أبرام بنيران صديقة في أثناء ملاحقة مطلوبين في قرية برطعة في جنين: دخلت الوحدة، وعلى رأسها ابرام، إلى القرية ليلاً. تنبّهت سيدة مسنّة لوجودهم فبدأت بالصراخ، اشتبك المقاومون الفلسطينيون المطلوبون مع جنود الوحدة الخاصة المستعربة، ما أدّى إلى إصابة مسؤول الوحدة ابرام برصاصة في رأسه كانت قد خرجت من مسدس زميله الذي اعتقد أنه أحد المطلوبين. مات على الفور.
وكان ايلي ابرام قد كلّف بإنشاء وحدة المستعربين التابعة لما يسمّى بـ"حرس الحدود" في منطقة الضفة الغربية العام 1991، لإلقاء القبض على ملقي الحجارة والزجاجات الحارقة في الانتفاضة الأولى، وتطور عملها بعد ذلك ليشمل ملاحقة المسلحين الفلسطينيين المطلوبين وتصفيتهم، وكان على رأسهم آنذاك مجموعة "الفهد الأسود"، الجناح العسكري لحركة "فتح". وتبقى واحدةً من أسوأ ذكريات الوحدة تلك التي عاشتها مجموعة منها في شهر أيلول من العام 2000، حين قامت بنصب كمين لقائد "كتائب القسام"، الجناح العسكري لحركة "حماس" في الضفّة الغربية آنذاك محمود أبو هنود. خلال تنفيذ المهمة، اشتبك أفراد الوحدة مع بعضهم البعض عن طريق الخطأ، ما أودى بحياة ثلاثة جنود من مقاتلي الوحدة.
عملياتهم
أظهرت دراسة فلسطينية لم تنشر، أن وحدات المستعربين نفذت 54 عملية اغتيال خلال أربع سنوات من الانتفاضة الأولى، و74 عملية اغتيال أخرى خلال الانتفاضة الثانية. واستهدفت هذه العمليات مطلوبين فلسطينيين من مختلف مناطق الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، وراح ضحيتها مدنيين آخرين اشتبه بكونهم مطلوبين، أو تعرضوا للضرب، أو أصيبوا خلال عملية ملاحقة المطلوبين.
مثلاً، قتلت الوحدة في آب من العام 2000 مختار قرية سردة محمود اسعد عبد الله (73 عاماً) عن طريق الخطأ. ويومها، ادّعى جيش الاحتلال أن مختار القرية أطلق النار على أفراد الوحدة. وفي 4 كانون الثاني 2007، اقتحمت الوحدة بلباسٍ مدني مدينة رام الله في وضح النهار لملاحقة مقاومين فلسطينيين مطلوبين. وعندما شاهدت أحد المطلوبين (ربيع حامد)، وهو أحد عناصر "كتائب شهداء الأقصى"، يحاول الفرار راح أفرادها يطلقون النار عليه. ما أدّى إلى اصابته بستّ رصاصات، ولكنه تمكّن من الفرار. وعلى إثر إطلاق النار، تجمهر المواطنون الفلسطينيون وبدأوا بإلقاء الحجارة والزجاجات الحارقة على أفراد الوحدة، فتحصّنت في أحد المباني وسط مدينة رام الله. لإنقاذها، تدخّلت وحدة جيشٍ مؤلفة من جيبات عسكرية وجرافات ومروحيات، وبدأت بإطلاق نار عشوائي لحوالي الساعتين في محاولة الدفاع عن وحدة المستعربين. أدّى ذلك الى استشهاد أربعة مواطنين فلسطينيين، وإصابة أكثر من 22 آخرين تواجدوا في المكان.
إن تحوّل أفراد الوحدة من مدنيين الى رجال أمن يكون فجائياً. ففي لحظات، تراهم يرتدون قبعة يكتب عليها بالعبرية "משטרה" وتعني "شرطة"، يسحبون مسدساً صغيراً يكون مدسوساً تحت ملابسهم الفضفاضة، وغالباً ما يحاولون إخفاء وجوههم حتى لا تعرف هويتهم الحقيقية. وبحسب شهود عيان، هم أيضاً يحملون سكيناً توضع تحت بنطالهم ناحية أسفل واحدة من الساقين، وأدوات معدنية أخرى يستخدمونها في إعتقال الفلسطينين وضربهم.
يتذكّر المعتقل يوسف مريش (19 عاماً) الذي اعتدت عليه وحدات المستعربين قبل اعتقاله في بلدة واد الجوز في القدس: "هجم أفراد وحدة من المستعربين عليّ من الخلف، كانوا اثنين يرتدون ملابس مدنية، انقضّوا عليّ بسرعة كبيرة، وبدأوا بضربي على وجهي ورجلي، ثم ألقوني على الأرض وثبّتوا رأسي بالأرض، واستمر أحدهم بركلي وضربي على وجهي، حتى قيّدوني بأربطة بلاستيكة وأخذوني إلى الجيب العسكري". عادةً، يعتدي المستعربون على الناشطين بشكلٍ همجي أثناء اعتقالهم، ويقومون بضربهم بأدوات معدنية على الرأس وأنحاء الجسم كافة.
القميص تحت البنطلون
نظراً لأساليب المستعربين في تعنيف المطلوبين، كان لا بد من استحداث أدواتٍ جديدة في الدفاع عن النفس تبدأ من محاولة اكتشاف المستعرب قبل أن ينطلق في تنفيذ مهمته. فيقوم الشبان مثلاً، خلال المواجهات، بإدخال قمصانهم داخل السراويل أو البنطلونات، إذ يصعب على المستعربين القيام بذلك كونهم يخفون المسدس وأدوات الاعتقال تحت قمصانهم الفضفاضة.
كما لا يتردّد النشطاء المحليون أيضاً بسؤال المشاركين في التظاهرات أو المواجهات عن أسمائهم، ويطلبوا في بعض الأحيان منهم إزالة اللثام عن وجوههم في مكانٍ غير مكشوف للتأكد من هويتهم، وخصوصاً في المواجهات التي تقع في القرى والبلدات الفلسطينية المغلقة التي يعرف أهلها بعضهم البعض. في هذه المناطق، بات يصعب على المستعربين الدخول، لكون أهلها أكثر منهم قدرة على السيطرة عليها ومعرفة الغرباء فيها. أما تحرّك المستعربين في المدن ونقاط المواجهة الرئيسية مثل حاجز قلنديا وعوفر فيكون أسهل، لأن تلك المناطق لا تحمل طابع سكّانياً متجانساً، ويأتي إليها الزوار والناشطون من مختلف المناطق، ما يصعّب عملية التعرّف على هويتهم.
وعن طرق الحماية من المستعربين، يقول أحد الناشطين: "لقد اتفق الشباب في ما بينهم على أن يتصدّى كلّ منهم للاحتلال في منطقة سكنه فقط وعدم الذهاب الى منطقة أخرى، إلا في حالات الضرورة، وبعدما يبلغ بقية الشباب. كذلك، تقوم مجموعة من الشبان بحراسة منطقة المواجهات، والتحقّق من هوية كلّ من يدخل إليها عن طريق سؤاله عن اسمه وتفتيشه حتى، إذا تطلّب الأمر".
إن تفادي الخطر المحدّق الذي تشكله وحدات المستعربين يحتاج إلى نشر وعي كافٍ بين الفلسطينيين حولهم، وإعادة النظر في آليات وأدوات السيطرة على المدن والقرى الفلسطينية لحمايتها من هجماتهم وتحركاتهم، من أجل تحقيق نوع من الرقابة الدائمة التي تحول دون قيام المستعربين باختراق المجتمع الفلسطيني وكشف دواخله أمام عيون الاحتلال. لذلك، فمن الواجب الحذر من تلك الوحدات وأذرعها، وعدم الاستهانة بدورها الجوهري كرأس حربة لأجهزة الأمن والجيش، فهي عيونها في المجتمع الفلسطيني، وتُبنى على المعلومات التي تقدّمها الخطط الهادفة الى القضاء على كافة أشكال المقاومة المشروعة للشعب الفلسطيني.