لم يكن سرطان الرئة أشدّ قسوة على محمود سعيد من العزلة الفنية في السنوات الأخيرة. إذ أخذ عليه بعض أبناء «بيئته» (الفلسطينية والمذهبية)، تعاونه مع تلفزيون «المنار»، وتكريس حنجرته الذهبية لبرامج تدعم المقاومة الإسلامية.
لم يكن سرطان الرئة أشدّ قسوة على محمود سعيد (1941 ــ 2014) من تلك العزلة الفنية التي عاشها في السنوات الأخيرة. إذ تجاهله مخرجو «الحداثة»، وأخذ عليه بعض أبناء «بيئته» (الفلسطينية والمذهبية)، تعاونه مع تلفزيون «المنار»، وتكريس حنجرته الذهبية لبرامج تدعم المقاومة الإسلامية.
عرف سعيد برخامة صوته، ما ساعده بالتربّع بطلاً مطلقاً على عشرات المسلسلات التلفزيونية والإذاعية الدرامية. وكان صاحب الفضل في إطلاق نمط الدراما البدويّة، خصوصاً بعدما أدّى بطولة مسلسل «فارس ونجود» الشهير، بجانب سميرة توفيق.
نجم الشاشة اللبنانيّة والعربيّة في السبعينيات، أمضى سنواته الأخيرة في قرية البستان الجنوبيّة (قضاء صور)، يصرف وقته في المطالعة، والقيام بجولات يوميّة في سيّارته في قرى المحيط. انصرف إلى قراءة مجموعة نصوص، كان يظن أنها تناسب عودته إلى الشاشة الصغيرة.
عودةٌ كان «فارس» ينتظرها بفارغ الصبر، لكنّها لم تتحقق. في لقاء أخير أجريناه معه، قبل أقلّ من سنتين، يقول: «رفضت بعض ما عرض عليّ، لأنّ فيه الكثير من الإهانة لتاريخي الفني. إنّ ما يحصل في العالم العربي من هذا الحشد في المحطات التي يديرها عقل واحد، شيء يدعو إلى الكآبة والحزن، فثمّة مايسترو وحيد يمسك بكل الأشياء، وبدلاً من أن يكون 22 تلفزيوناً للعرب، صار عندهم ألف محطة، وصار عندهم 22 إلهاً و22 حقّاً. لقد أزيلت كلمة نحن من قاموسنا. لن أقطع الأمل وماذا يمنع أن تقوم القيامة وننتهي من كل هذا الغضب؟».
ولد محمود سعيد الجارية العام 1941، في مدينة يافا الفلسطينية، لأب فلسطيني، وأم بيروتيّة من آل البنّي. لم يكن قد بلغ السابعة، حين بدأت العصابات الصهيونيّة، بتهجير الفلسطينيين من قراهم العام 1948. حملته أمّه إلى مدينة صيدا في جنوب لبنان، في حين بقي إخوته في الأراضي المحتلّة، يقاومون في جيش الإنقاذ. درس في «دار الأيتام الإسلاميّة»، حيث كان رئيس قسم المذيعين في الإذاعة اللبنانية شفيق جدايل ينظم عملاً مسرحياً نهاية كل عام دراسي، وكان يسند إلى سعيد أدوار البطولة. وفي العام 1959، اختير ليكون ممثلاً ومؤدياً في الإذاعة اللبنانيّة، بعدما عبر مباراة أمام لجنة تألّفت من إيلي ضاهر ووجيه ناصر ونزار ميقاتي ومحمد شامل وغيرهم. وعبر الأثير، عمل مع مجموعة من الإذاعيين المخضرمين، فتمكّن من أصول اللغة ومخارج الحروف، متكئاً على رصيد كبير كان يختزنه من خلال سماع تلاوة القرآن اليومية بصوت شقيقه.
أطلّ على شاشة «تلفزيون لبنان» للمرّة الأولى في العام 1961، في برنامج «من وحي البادية»، حيث اقتضى دوره أن يقول جملة واحدة: «إنّْ ما تْرِيدون النُّوْم غيركُم يْريد يْنام». ثم كرّت سبحة إطلالاته بين مسلسل «أبو ملحم»، و»حكمت المحكمة»، و»مسرح الخميس»، و»بيروت الليل»... ثم أدّى شخصيات تاريخية منها «الاسكندر المقدوني» و»عمر الخيّام»؛ ونال اهتمام الممثل الراحل رشيد علامة الذي صار يختاره لمشاركته بطولة أعمال عدّة، منها العمل الشهير «سرّ الغريب» (1967) من إخراج أنطوان ريمي وإعداد السيناريست جلبهار ممتاز.
عندما تقرّر تعزيز محطة «تلفزيون لبنان والمشرق» بـ»القنال 11» في الحازمية، عرض على سعيد «عقد احتكار»، مقابل ثلاثة مسلسلات في كل عام، على أن يترك له أمر تحديد اسم الكاتب والممثلين ونوعية العمل والإشراف على الإنتاج التنفيذي. ومن هناك توالت الأعمال التي أطلقت شهرته أكثر وأكثر. وتكرّس حضوره عربياً بعد مسلسل «التائه» (1970)، المأخوذ عن رواية «مرتفعات وذرينغ»، والذي كتبه للتلفزيون مروان العبد وأخرجه إيلي سعادة. كما تشارك بطولة مسلسلي «السراب» و»غروب» مع هند أبي اللمع بإدارة أنطوان ريمي. هذا الأخير أخرج أيضاً فيلم «فداك يا فلسطين» (1970) عن نص لمروان العبد، والذي أدّى سعيد دور البطولة فيه.
المحطّة الأبرز في مسيرته التلفزيونيّة، تمثّلت بمسلسل «فارس ونجود» (1974) الذي تقاسم فيه دور البطولة مع سميرة توفيق، من كتابة نزار مؤيد العظم وإخراج إيلي سعادة. وتحوّل العمل إلى مؤسس لنمط بدوي في السينما والتلفزيون عربياً، وحظي بشهرة واسعة، ما زال صداها يتردّد إلى اليوم، عبر إعادة عرضه بشكل دائم على الشاشات العربيّة. أمّا في السينما، فيتمثّل إنجازه الأبرز، بدور خالد بن الوليد، حين اختاره المخرج الراحل مصطفى العقّاد لأداء دور القائد العسكري التاريخي، في فيلم «الرسالة» العام 1976.
على المسرح، شارك في «المهرّج» لمحمد الماغوط، و»موقعة عنجر» لنزار ميقاتي، و»موسم الهجرة» للطيب صالح ويعقوب الشدراوي. وخلال الحرب الأهليّة في لبنان، غادر إلى اليونان، وأقام في العاصمة أثينا نحو ثلاث سنوات، ثمّ انتقل إلى الأردن حيث شارك في عدد كبير من الأعمال التلفزيونيّة.
في التسعينيات، خفت نجمه، لكنّه بقي حاضراً في أدوار متفرّقة في الدراما السوريّة، كما في مسلسل «ياقوت» (1998) من إخراج فردوس أتاسي، وبطولة جمال سليمان، وخالد تاجا. كما أدّى صوت الراوي في عدد من الأعمال التلفزيونيّة، والأفلام الوثائقيّة، وحلّ ضيفاً في السنوات الأخيرة على بعض الأعمال الدراميّة الخليجيّة. كما مهر بصمته الصوتيّة على عدد من الشخصيّات الكرتونيّة الشهيرة، خصوصاً في مسلسل «صراع الجبابرة» حيث أدّى صوت شخصيّة «تسو تسو». وفي العام 2004، أطلّ بشخصيّته الحقيقيّة في حلقة من المسلسل الكوميدي السوري «هومي هون» لباسم ياخور من بطولة سلمى ومها المصري وشكران مرتجى. تمحورت الحلقة حول استعادة لأثر نجوميّة محمود سعيد على النساء من جيله، وكيف كان بزيّه البدوي يمثّل «فارس الأحلام» حرفياً، بنظر من تابعن أعماله المعروفة في السبعينيات.
بالرغم من ابتعاده عن الأضواء خلال السنوات الأخيرة، أو بالأحرى ابتعاد الأضواء عنه، بقي اسم محمود سعيد يتردّد دوماً، في ذاكرة كلّ من يستعيد العصر الذهبي للتلفزيون في لبنان والعالم العربي.
محطّات :
2014 رحل عن عمر يناهز 73 عاماً، بعد صراع مع المرض، ووري في الثرى عصر أمس، في «مقبرة شهداء فلسطين» (شاتيلا)
2011 آخر إطلالاته التلفزيونيّة في مسلسل «هوامير الصحراء» من إخراج داوود شيخاني
2007 صوت الراوي في مسلسل «خالد بن الوليد» من إخراج غسان عبد الله
1994 شارك في مسلسل «جواهر» البدوي من إخراج نجدة أنزور بجانب منى واصف، ومرح جبر، والراحل عبد الرحمن آل راشي
1982 أدّى بطولة مسلسل «المعتمد بن عباد» مع نضال الأشقر، عن نصّ وليد سيف، وإخراج عبد الوهاب الهندي
1976 أبرز أعماله في السينما، بدور خالد بن الوليد في فيلم «الرسالة» للمخرج مصطفى العقاد
1974 يملأ الدنيا ويشغل الناس في بطولة المسلسل البدوي «فارس ونجود» كتابة نزار مؤيد العظم وإخراج إيلي سعادة، مع سميرة توفيق. تحوّل فارس ونجود إلى قيس وليلى السبعينيات بالنسبة للمشاهدين في العالم العربي
1970 انطلقت شهرته من خلال مسلسل «التائه» الذي كتبه مروان العبد وأخرجه إيلي سعادة
1967 مسلسل «سرّ الغريب» لأنطوان ريمي والذي حقّق شهرة واسعة، واستخدم في افتتاح التلفزيون الرسمي السعودي
1960 شارك في فيلم «عنتر يغزو الصحراء» لنيازي مصطفى من بطولة فريد شوقي ومريم فخر الدين
1959 نجح في مباراة الدخول إلى الإذاعة اللبنانية ممثلاً ومؤدياً، ثمّ وقّع عقداً مع «تلفزيون لبنان» لإنجاز ثلاثة أعمال تلفزيونيّة في العام
1948 تهجّر مع عائلته من فلسطين المحتلّة
1941 الولادة في مدينة يافا
نعت سفارة دولة فلسطين ومنظّمة التحرير الفلسطينية والاتحاد العام للفنانين الفلسطينيين الممثل الراحل. كما شارك سفير دولة فلسطين في لبنان اشرف دبور، ومسؤولو الفصائل الفلسطينية، وعدد من الفنانين الفلسطينيين واللبنانيين، واتحادا الفنانين اللبنانيين والفلسطينيين، في تشييعه أمس. وأشارت السفارة في نعيها إلى أنّ الفنان الراحل «ساهم في بناء الوعي الثقافي والفني الفلسطيني وكان نجماً في سماء الفن العربي»، كما رعى «الفنانين الفلسطينيين في لبنان من خلال بناء الاتحاد العام للفنانين الفلسطينيين الذي كان رئيساً فخرياً له». وتقبل التعازي اليوم وغداً في جامع الخاشقجي بعد صلاة العصر.