هل عدنا بالفعل الى مقولات هنتنغتون و «صراع الحضارت»، مع مشهد يحمل في طياته الدينية فكرة المخلص بين «محافظين جدد»، يبدو انهم تغلغلوا بأفكارهم في اماكن عدة في الادارة الاميركية وفرضوا أمراً واقعا من الصراع الذي يصعب تجاوزه؟
بعد هنتنغتون الذي حدّد المنافسين المحتملين للولايات المتحدة الاميركية على الزعامة العالمية، جاء دور مستشار الأمن الأسبق «زبيغنيو بريجينسكي» ليرسم معالم الطريق الذّي ينبغي على صانع القرار الأميركي انتهاجه للإبقاء على حالة الهيمنة العالمية.
محمد محمود مرتضى/ جريدة السفير
جاء كتابه «رقعة الشطرنج الكبرى» ليضع القارة الأوراسية على طاولة التشريح الجيوستراتيجي كمنطقة قلب حيوية لبسط الهيمنة العالمية، محدّدا خمسة لاعبين جيوستراتيجيين: فرنسا، وألمانيا، والصين، وروسيا، والهند، وثلاثة محاور جيوبوليتيكية ارتكازية كبرى: أوكرانيا، وأذربيجان، وكوريا الجنوبية، وتركيا، وإيران.
و«إذا كان اللاعبون الجيوستراتيجيون يُمثّلون الدول التّي تمتلك القدرة والإرادة الوطنية اللازمتين لممارسة النفوذ أي التأثير في ما وراء حدودها لغرض تبديل الوضع الجيوبوليتيكي القائم إلى الحدّ الذّي يؤّثر في مصالح أميركا، فإنّ المحاور الجيوبوليتيكية تمثّل الدول التّي لا تستمد أهميتها من قوتها ودوافعها، إنّما من موقعها الحسّاس والنتائج التّي تترتب على الهشاشة الضمنية لظرفها وكونها عرضة لتصرفات اللاعبين الجيوستراتيجيين».
أعاد بريجينسكي إحياء الجدل الجيوبوليتيكي القديم حول منطقة قلب العالم والصراع الأزلي بين «اللوثايان» و«البهيموت» في عُرف كارل شميدت. فهدف أميركا المركزي يتمحور حول ضرورة إبقاء القارة الأوراسية تحت السيطرة غير الأوراسية، يعني الأميركية، من خلال الحرص على إدامة التعدّد الجيوبوليتيكي في القارة، وذلك يستدعي المناورة للحيلولة دون ظهور تحالف مُعاد.
لقد حدّد بريجينسكي ثلاث مراحل مترابطة الغايات، مرحلة المدى القصير المرتبطة بمنع بروز تحالف مضاد، وهي مرحلة تُمهّد الطريق لمرحلة المدى المتوّسط التّي ستفتح الطريق تدريجيا لمزيد من التأكيد على ظهور شركاء ملائمين إستراتيجيا، يمكن أن يُساعدوا في تشكيل منظومة أمنية أكثر تعاونا على امتداد أوراسيا. وفي نهاية المطاف، يُمكن لذلك أن يُهّيئ، على المدى البعيد (المرحلة الثالثة)، للانتقال إلى محور عالمي للمسؤولية السياسية المشتركة حقا.
بالطبع، لن يكون ذلك بالمهمة اليسيرة. لذلك، لم يغفل بريجينسكي رسم قواعد اللعبة الدولية، كما لم يغفل وضع سيناريوهات محتملة للسلوك الذّي قد يتّخذه لاعب رئيسي أو محور ارتكازي. ربمّا لم تكن إدارة كلينتون آنذاك على قدر طموحات بريجينسكي الجيوستراتيجية، لذلك وصفها لاحقاً بالإدارة الفاشلة.
ما يهمنا هنا هو العالم العربي والاسلامي، فقد تضافرت عوامل عدة جعلته يبرز بقوّة على الساحة العالمية للأحداث: الامتداد الواسع لرقعته الجغرافية، حيازته الجزء الأكبر من الثروة الباطنية العالمية، إضافة إلى الموروث الحضاري والديني الذّي تعرفه المنطقة، كل ما ذُكِر يُرشحه لأن يكون منطقة قلب حقيقية بالمفهوم الجيوبوليتيكي. لقد توافقت هذه العوامل مع صعود التيّار المحافظ في الولايات المتّحدة، المدفوع بشكل غير خفي بطموحات دينية تتوافق مع الرؤية الصهيونية لأرض المعاد والصراع الأزلي بين الخير والشرّ، والحرب الكبرى، ومعركة «هرمجدون»، والتحالف المسيحي ـ الصهيوني، وإبادة المسلمين، فقدوم المسيح.
كثيرا ما نظر «المحافظون الجدد» إلى العراق باعتباره الباب السحري الذّي يأتي عبره التغيير المنشود في المنطقة. لقد تبنى هؤلاء مقاربة الدومينو الشهيرة: سقوط نظام مارق سيتبعه حتما سقوط الأنظمة المماثلة تباعا.
كان غزو العراق كافياً لانزال الجيوش الاميركية في المنطقة، لكنه لم يكن كافياً لاسقاط الحجر الاول في الدومينو، أي العراق. وبطريقة غريبة بعض الشيء، تم استحضار ما كانوا يطلقون عليه اسم «المجاهدين الشجعان ضدّ البطش السوفياتي».
وربما عن طريق الاستدراج، كما حصل في استدراج صدام لغزو الكويت، نجح بعض الافراد بضرب برجين توأمين في نيويورك ومبنى البنتاغون، لتعلن أميركا بعدها بداية مرحلة جديدة اتخذت تسمية «الحرب العالمية على الإرهاب».
هو تحالف دولي ضدّ الإرهاب العالمي وجد فيه كلّ حليف ضالته، فـ «المحافظون الجدد» وجدوا فيه تجسيدا لأجندتهم المسطّرة بـ «عناية إلهية»، وبقية القصّة معروفة.
لقد بات مفهوم القوّة الصلبة جوهريا في السياسة الخارجية لـ «المحافظين الجدد». ومن المؤكد أنّ الإفراط في القوّة بكلّ ما يتبعها من مصطلحات الحرب الوقائية والاستباقية، قد ألبس هذه الدولة رداء من الرهبة، لم يسبق أن اكتست بحلّته طيلة تاريخها كدولة حديثة، الأمر الذي جعلها تقف على مفترق طرق حاسم، جسده عنوان كتاب جديد لبريجينسكي تحت إسم «الاختيار»، إمّا الهيمنة العالمية أو القيادة العالمية.
من المؤكد أنّ لكلّ خيار تكاليفه على المدى الإستراتيجي البعيد، كان بريجينسكي، يرى أنّ مطمح القيادة العالمية هو المطمح الأقرب إلى العقلانية والواقعية السياسية. بالتالي، فإنّ الأجندة المحافظية لم تكن في نظره إلاّ أحلام يقظة صبيانية، بإمكان أصحابها أن يُهدّدوا جدياً المكانة العالمية للولايات المتحّدة كقوة عالمية متفردة.
جاءت إدارة الرئيس أوباما وهي تحمل إرثا مثقلاً من التحديات، ما تطلّب منها خطّا واضحا يعيد الولايات المتّحدة إلى مرحلة ما قبل «المحافظين الجدد»، وبالتّالي إعادة الأمور إلى نصابها، بمعنى العودة مجددا إلى إستراتيجية «الستاتيكو» بعد الاستثناء الواضح الذّي انتهجته إدارة «المحافظين الجدد» في محاولة إعادة صنع العالم عبر فوّهة البندقية أو عبر إحداث تحوّل في بنية النظام الدولي عن طريق القوّة الصلبة المفرطة.
اعتبر البعض أن الإدارة الجديدة سعت الى إعادة العلاقات «الحميدة» مع العالم الإسلامي بعد القطيعة التّي تسبّب فيها «متطرفون منبوذون من كلا الجانبين»، وان هذا هو السياق العام الذي حمله خطاب أوباما الشهير للعالم الإسلامي من القاهرة. كما احتّل العراق أولوية قصوى لدى الإدارة الجديدة التّي بادرت الى سحب قوّاتها.
تعاطت الادارة الجديدة وكأن المشكلات النووية هي المشكلة الجدّية الفعلية بالنسبة للولايات المتحدة، في حين كانت تُظهر أن «معضلة الإرهاب الدولي» كأحد المخلفّات لسياسة «المحافظين الجدد» شارفت على الانتهاء، وهذا ما حمل بذوره كلام اوباما في قاعدة ويست بوينت العسكرية (28 ايار 2014)، مفتخراً باغتيال اسامة بن لادن والغارات الجوية التي تنفذها في باكستان واليمن.
وللمفارقة فانه لم يفصل الا خمسة عشر يوما بين خطاب اوباما هذا واجتياح «داعش» للموصل واجزاء واسعة من العراق وسوريا. بدت ادارة اوباما في فترة رئاستها الاولى ضعيفة وهزيلة، ومع صعود الجماعات التكفيرية الارهابية بهذا الشكل غير المسبوق، وجدت هذه الادارة انها أمام فرصة حاسمة للعودة مجدّدا. هي فرصة ثانية كما صوّرها بريجينسكي في كتابه الذّي حمل عنوان «الفرصة الثانية»، والذّي كان بمثابة تقييم للإدارات الثلاث السابقة، وقرعا لأجراس الخطر بالنسبة لإدارة أوباما، محذّرا إيّاها من المزالق التّي وقع فيها السابقون، ومبشّرا إيّاها بفرصة ثانية للعودة مجدّدا كقوّة ريادية على الساحة الدولية.
وكان ثمة متغّير آخر قد سبق هذا التمدد الكبير للجماعات الإرهابية، وهو ما يتعلق بما أُصطلح عليه اسم «الربيع العربي». فسقوط أحجار الديكتاتورية التّي تعبت الادارات الاميركية في تشييدها لسنوات عديدة، كان حافزا إضافيا لحمل الإدارة الجديدة على إعادة النظر في سياساتها تجاه العالم العربي، بشكل يُبعدها عن ثنائية المعتدلين والمارقين. وبقدر الأثر السلبي الذّي تسبّبت فيه بعض هذه «الثورات» على سياسة واشنطن الشرق أوسطية، بقدر ما تحاول هذه الأخيرة امتطاء صهوة «الثورة» في دول بعينها بهدف إسقاط أنظمة، مستعينة بأنظمة أخرى لا تقل حاجة الى ثورة.
لقد أسفرت هذه «الثورات» عن اصطفافات إقليمية جديدة، كما يبدو أنّ الولايات المتّحدة وجدت نفسها مقبلة على خسارة بعض المحاور الجيوبوليتيكية الارتكازية في إستراتيجيتها العالمية، ما يجعلها تبادر إلى نقل اهتمامها من محاربة جماعات مارقة وأنظمة مارقة، الى محاربة «افكار وايديولوجيات مارقة». واضطرت إلى التخلّي عن نزعتها الانفرادية في مواجهة الأزمات الدولية، لمصلحة النزعة الجماعية وإقامة تحالفات دولية لتقاسم الأعباء، ولو عبر أنظمة لطالما كانت مصنفة بأنها الداعم الاساسي لهذه الافكار مادياً وفكرياً.
كل ذلك يجعلنا امام أسئلة كبيرة: إلى متى ستبقى الولايات المتحّدة قادرة على المحافظة على الوضع القائم؟ وهل بإمكاننا اليوم الحديث عن بنية نظام دولي جديد في طور التشكّل ينسف كلّ مقولات الهيمنة؟ وهل عدنا بالفعل الى مقولات هنتنغتون و «صراع الحضارت»، مع مشهد يحمل في طياته المضامين الدينية حول فكرة المخلص بين «محافظين جدد»، يبدو انهم تغلغلوا بأفكارهم في اماكن عدة في الادارة الاميركية وفرضوا أمراً واقعا من الصراع الذي يصعب تجاوزه، وبين فكرة المخلص في الادبيات الاسلامية؟ وعند هذه الاخيرة، أي فكرة المخلص ربما تكون نقطة الاشتراك؟ فالطرفان يعتقدان انه مع «المخلص» وحده تكون نهاية التاريخ!..