أمام الحدث المعقّد بجميع المقاييس، اختارت معظم القنوات الإخباريّة التركيز على «القشرة الدينية» للقضية، والانتماء الديني لمنفذي الهجوم، وتجاهل النظر إليهم بوصفهم أداة سياسية، وتناسي تداعيات «الحرب على الإرهاب»
لم تكد تمرّ ساعات على استهداف أسبوعيّة «شارلي إيبدو» في باريس الأسبوع الماضي، حتى اختارت وسائل الإعلام الفرنسيّة وصفها بأنّها «حدث كوني» و«11 سبتمبر آخر».
طوال الأشهر الماضية، كانت «فرانس 24» تعالج المجازر والحروب حول العالم، بـ «هدوء باريسي»، وتناقش أسباب تنامي التيارات الجهاديّة في أوساط الشباب الأوروبي. لكن القناة استيقظت بين ليلة وضحاها، لتجد أنَّ «الوحش» الذي كانت تراقبه من بعيد، أصبح في عقر دارها. عنونت القناة الفرنسيّة الناطقة بالعربيّة تغطيتها للجريمة بـ «الإرهاب يضرب باريس»، وراحت تنقِّب في السجل الإرهابي الطويل لمنفِّذي العمليّة.
وبثّت القناة تقريراً بعنوان «حياة بومدين من البيكيني إلى الجهاد»، يوجز كيف «تحوّلت» ابنة السادسة والعشرين ربيعاً إلى متطرّفة، وشريكة مشتبه بها في الهجوم على «شارلي إيبدو». كــما فردت القــناة مســاحة واســعة للتــظـــاهرات المـــندِّدة بالهجوم حول العـــالم، إلى جانب التهليل لكلمة الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند التي رأتها القناة «ملائمة للحظة التاريخيَّة الحرجة في تاريخ البلاد».
في السياق ذاته، أبدت «فرانس 24» اهتماماً بالغاً بدعوة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو اليهود الفرنسيين للهجرة إلى فلسطين المحتلّة: «موطنهم الآمن». في هذا السياق، عرضت القناة تقريراً (10/1) حول احتجاز الرهائن في المتجر اليهودي، ركّز على أكاليل الزهور والصلوات التي قدّمها أبناء الحي تعاطفاً مع الضحايا. وتكثر في التقرير عبارات مثل «وحدة فرنسا وتعايشها»، و «التراب الوطني» للحديث عن «زمنٍ جميل» عاش فيه الفرنسيون سعداء، قبل أن تطالهم يد الإرهاب.
استضافت القناة أيضاً الكاتب المتخصّص في شؤون الإرهاب ماتيو غيدار (12/1) للحديث عن تداعيات الهجمات الأخيرة. جلّ ما أراد غيدار قوله «إنَّ ما حصل جاء نتيجة كون فرنسا بلداً ديموقراطياً يحترم الحريات الفردية، ويحاول دمج المتطرّفين في المجتمع، وتقليص الحدود المفروضة عليهم في السجون»، لكن هكذا يردّ الإرهابيون جميلها.
على المقلب الآخر، تبنّت وسائل الإعلام العربية والعالمية منطق تقديم البعد الديني للهجمات الأخيرة، على أيّ بعدٍ آخر، باعتباره الجانب الجوهري والأكثر أهميّة من المشهد. اهتمت «بي بي سي» بالعامل المسلم الذي أنقذ الرهائن في المتجر اليهودي. وفي السياق ذاته عرضت «العربية» (9/1) تقريراً حمل عنوان «الشرطي المسلم أحد ضحايا شارلي إيبدو تحوّل إلى رمز».
وجاء في التقرير: «موت أحمد مرابط كان بمثابة طوق النجاة التي تشبث فيه مسلمو فرنسا، للخروج من دائرة الاشتباه التي وجدوا أنفسهم داخلها». ترافق ذلك مع صور لمسلمين ومسلمات يتظاهرون في فرنسا كي يزيلوا، على الملأ، تهمة الإرهاب عنهم. لم تشذّ «العربيّة الحدث» (11/1) بدورها عن ذلك المنطق، إذ أصرّ مراسلها على التركيز على ضخامة تظاهرات «المسلمين الذين يقفون في وجه الإرهاب»، وعدّ ذلك «مفاجأة للصحافيين». في حين حاولت «الميادين» توسيع زاوية النظر للمستجدات الأخيرة، من خلال التركيز على محاولة «إسرائيل» الاستفادة ممّا يجري، «والدخول على الخطّ».
أمام الحدث المعقّد بجميع المقاييس، اختارت معظم القنوات الإخباريّة التركيز على «القشرة الدينية» للقضية، والانتماء الديني لمنفذي الهجوم، وتجاهل النظر إليهم بوصفهم أداة سياسية، وتناسي تداعيات «الحرب على الإرهاب» المستمرّة منذ العام 2001، وما خلّفته من مجازر من العراق إلى أفغانستان. وتمحور اهتمام الإعلام على مشاركة نتنياهو في «تظاهرة رفض الإرهاب» التي شهدتها باريس قبل يومين، ليصير أشبه بالنجم الأبرز لها؛ وذلك تفصيل لا يمكن غضّ النظر عنه.
كما لا يمكن اقتطاع الهجوم على «شارلي إيبدو» من سياق اللحظة الراهنة، وكلّ ما يجري في الداخل الفرنسي وحول العالم، وتجاهل طرح السؤال البسيط والساذج: كيف يستطيع الإرهاب أن يتسلّل بهذه الخفّة، لارتكاب جريمة في قلب باريس، فيما كانت وسائل الإعلام الغربية والفرنسية لا تفعل شيئاً، طوال الأشهر الماضية، سوى الترهيب والتخويف من ظاهرة تنامي التيارات الجهادية في أوروبا؟..
ثلاثة ملايين نسخة
يصدر اليوم العدد الجديد من مجلّة «شارلي إيبدو» حاملاً رسماً للنبي محمد يذرف دمعة، ويحمل لافتة كتب عليها: «أنا شارلي»، مرفقاً بعنوان «كلّ شيء غفر». كما أعلن موزّعو المجلّة الأسبوعيّة الساخرة عن الاستعداد لطباعة ثلاثة ملايين نسخة من العدد، مقارنةً بنحو 60 ألف طبعة كانت تصدر منها قبل الهجوم عليها الأسبوع الماضي، بحسب «بي بي سي». ونقلت وسائل إعلام عن أحد كتّاب المجلّة باتريك بيلو انّ العدد الصادر اليوم، سيكون متوفّراً بـ16 لغة، لجميع القرّاء في العالم. وقامت الصحف الفرنسية بنشر غلاف العدد الجديد أمس، قبل صدوره.
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه