تمحورت عناصر التجديد الثقافي لدى الصدر حول جملة من قضايا. شُغل بإبراز الثقافة الإسلامية والانطلاق بها إلى فضاء الثقافة العالمية. سعى إلى بناء فكر المسلم الشيعي وتكوينه ثقافياً وإيمانياً. تصدى لما يسمى «المرجعية السكوتية»
لم يكتفِ مؤلف «قيام طائفة... أمة موسى الصدر» (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر) بوضع مادة تاريخية توثق للنشاط السياسي الذي اضطلع به الصدر منذ استقراره في لبنان حتى تغييبه. أطلعنا على مسالك التجديد عنده، ثقافياً وسياسياً ودينياً واجتماعياً.
في «قيام طائفة... أمة موسى الصدر» (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر)، يؤرخ صادق النابلسي لحقبة شهدت تحولات كبرى، لبنانياً وعربياً، مثّل الصدر أحد صانعيها. الكتاب أطروحة دكتوراه في العلوم السياسية قُدمت إلى «الجامعة الإسلامية» في بيروت عام 2011 تحت إشراف المؤرخ أحمد بيضون.
من إيران إلى لبنان، يرصد النابلسي مفاصل حياة الإمام موسى الصدر، الباحث دائماً عن الاعتدال والخروج من الأطر التقليدية. كأول معمّم يدخل الجامعات العصرية، جمع بين العلوم الدينية والحديثة وقارب القيم الحضارية الغربية، بحكم ما شهدته إيران آنذاك من تطورات وتفاعلات فكرية بين تيارات سياسية وأحزاب ماركسية وإسلامية وقومية وليبرالية.
في مرحلته الإيرانية، عايِش في فترة الخمسينيات متغيرات هامة آلت تدريجاً إلى رسم وجه إيران الجديد. أحاط إحاطة واسعة بالمبادئ التي حكمت الثورات التي قام بها مراجع الحوزة منذ الحركة الدستورية، وصولاً إلى الإمام الخميني حيث كان الصدر واحداً من عشرين هم أصل الثورة الإسلامية.
محورية الصدر في حركة الثورة الإيرانية تجلت ـ كما يذهب بعضهم ـ في كونه الشخص الذي صنع للثورة حضورها على الساحة اللبنانية والإقليمية. يتحدث الكاتب عن العلاقة بين الإمامين التي فتحت شهية كثيرين، ولا سيما بعد اختطافه عام 1978. تعدّ المحطة النجفية في العراق حلقة وصل ثانية تميزت بطابعها الفكري الثقافي إلى جانب الاهتمام بالسياسة.
يكشف الكاتب عن معطيات أزمة العلاقة بين الصدر وشاه إيران. لاحقته شائعات كثيرة، وخصوصاً بعدما استطاع الافراج عن علماء دين معارضين لنظام الشاه من السجون الإيرانية. واجه الصدر حركة معارضة لمشروعه السياسي في لبنان من قبل أحزاب وشخصيات سياسية ودينية لم تستطع هضم أفكاره التي تبلورت في مسالك تجديدية اصطدمت قليلاً أو كثيراً بالتحديات التي يفرضها الواقع اللبناني.
تمحورت عناصر التجديد الثقافي لدى الصدر حول جملة من قضايا. شُغل بإبراز الثقافة الإسلامية والانطلاق بها إلى فضاء الثقافة العالمية. سعى إلى بناء فكر المسلم الشيعي وتكوينه ثقافياً وإيمانياً. تصدى لما يسمى «المرجعية السكوتية» والحوزة الصامتة لابتعادهما عن معترك الحياة السياسية.
حمل خطابه تجاه الأقليات مسلكاً رؤيوياً
بيّن أن الإسلام يحمل منظومة فلسفية متكاملة ومنسجمة تُظهر ترابط الإنسان وحركته بالكون. كانت للصدر حساسية ملحوظة تجاه العلمانية التي عبرت عنها أحزاب في الواقع الثقافي والاجتماعي الشيعي، فانصبت جهوده على نقدها ضمن ثلاثة مداخل رئيسة: تنكر العلمانية للدين، وعزل القوانين والأنظمة والحقوق عن القيم، وعلمنة الدولة اللبنانية وإبعادها عن الديمقراطية التعايشية.
مثّلت إشكالية هوية لبنان محوراً أساسياً في انشغالات الصدر الفكرية. فأين وقف في ما يتعلق بفوضى انتماءات اللبنانيين وهوياتهم المركبة وانقسامهم السياسي الطائفي؟ بين تياري الانعزالية المفرطة في نزعة اللبننة لدى أصحاب الأمة المارونية، والعروبة التي تريد لبنان ملتصقاً بالمنطقة العربية، رفض الإمام الاتجاهين السياسيين.
رأى أن البيئة الاجتماعية والثقافية اللبنانية لا تتقبّل غربة لبنان وانفصاله عن هذه المنطقة، كما لا تتقبل في الحال عينها، اندماجاً كلياً في المحيط الإسلامي الواسع. انطلق الصدر في فهمه لقضية الأقليات من قاعدة ضرورة تقوية التعايش بين أبناء الطوائف والمذاهب والأديان بصرف النظر عن لعبة الأحجام والديموغرافيا وعقدة الأقلية والأكثرية. حمل خطابه تجاه الأقليات مسلكاً رؤيوياً إذ كان على يقين أن العدو الإسرائيلي عمل وسيعمل على تقوية الكيانات الطائفية لتعزيز وجوده بهدف تقسيم المنطقة على أسس مذهبية. اللافت ما أشار إليه في أحد الحوارات الصحافية حين قال: «قد نجد أنفسنا غداً لنرى إسرائيل قوة سياسية تتفاعل مع المعارضة في كل بلد عربي».
نظر الصدر إلى العلاقات الإسلامية المسيحية من زاوية القيم الدينية والإنسانية المشتركة. تضمنت خلاصاته للأديان بعداً اجتهادياً تعزز نظرياً في التشديد على التعايش وتكريس لاهوت التسامح وتقبل الآخر والاندماج معه مع الابتعاد عن تناقضات الهويات الدينية الإلغائية.
في «ألف باء العذابات الشيعية»، أخرج الصدر الشيعة من حافة الكيان اللبناني إلى عمقه بعد نضال طويل مع جماعته.
عزز حضورها بعد معاناة من التمييز المناطقي والطبقي والسياسي، وفي المقابل واجه تحديات كثيرة. عمل على مأسسة طائفته في مستويات عدة: الإصلاح السياسي والديني، وتأسيس حركة «المحرومين» و«المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى» وحركة «أمل»، وتأطير الثورية الشيعية المندمجة في المجتمع اللبناني واستنهاضها بالوعي الديني والسياسي.
تبدو الزوايا السياسية في مسيرة الصدر أشد تعقيداً. شهد تاريخه السياسي دينامية لا تستكين. استدرج التناقض اللبناني والإقليمي ملفات معقدة، دخل الإمام في عمقها بدءاً من التعامل مع الطبقة السياسية في لبنان، مروراً بمنظمة التحرير الفلسطينية وما طرحته من إرباك وتمدد أمني بعد اتفاق القاهرة، وصولاً إلى العلاقات اللبنانية السورية وأزماتها المفتوحة. اندلاع الحرب عام 1975 دفع الصدر إلى تكثيف حركته لاخراج لبنان من فم الذئب. طرح مبادرات وأجرى اتصالات ولقاءات بين الأطراف اللبنانية والفلسطينية. لم يكن العنف محكوماً باللاعبين في الداخل، وقع تحث ثقل العوامل الخارجية.
يضيء «قيام طائفة... أمة موسى الصدر» على حيوات الإمام الصدر. ثمة كثافة في المعطيات قدمت لنا الكثير عما نجهله. استفاض المؤلف في التعقيب على الأحداث السياسية. اتخذت معالجاته أحياناً طابعاً انفعالياً، أفقد الأفكار في بعض محطاتها رصانتها وسياقها الحيادي.