لا تنفذ «إسرائيل» غارات بحجم عملية القنيطرة من دون إعداد دراسة عميقة لأبعادها والغايات المرجوة منها. فلا أحد يصدّق أنها لا تعرف أنّ حزب الله في صدد واحد من أمرين: ردّ نوعي محدود، أو فتح جبهة كاملة
د. وفيق ابراهيم
لا تنفذ «إسرائيل» غارات بحجم عملية القنيطرة من دون إعداد دراسة عميقة لأبعادها والغايات المرجوة منها. فلا أحد يصدّق أنها لا تعرف أنّ حزب الله في صدد واحد من أمرين: ردّ نوعي محدود، أو فتح جبهة كاملة.
ما هي إذاً أهداف «إسرائيل» من هذه الغارة؟
للمرة الأولى منذ عام 1948 تتطابق أهداف «إسرائيل» مع أماني ثلاث قوى عربية وإقليمية هي السعودية وتركيا وقوى المعارضة التكفيرية في سورية. الأمر ليس مجرد اتهام، فهذه القوى تناصب إيران عداء استراتيجياً قوياً، وتريد إسقاط النظام السوري وتتمنى الهلاك لحزب الله. لذلك تعمل على الضغط على الولايات المتحدة الأميركية للحيلولة دون ولادة اتفاق مع إيران حول ملفها النووي وملفات سياسية أخرى في الإقليم، وتطالب بغزو غربي لسورية أو إتاحة الحركة العسكرية لتركيا و«إسرائيل» في سورية ولبنان.
الاتفاق في الأهداف واضح إذاً، وكذلك في الأساليب. تركيا تفتح حدودها لكلّ أفّاق ومتشرد يدّعي الجهاد. تزوّده سلاحاً ومعنويات ولوجستية، و«إسرائيل» تمدّ التكفيريين بالسلاح والتموين والحركة والحماية على مقربة من الجولان المحتل، أما مملكة آل سعود فلا تردّ طلباً للإرهابيين من سلاح ومال ودعم سياسي والكثير من الدعاء والابتهالات.
وهكذا ينكشف وجود علاقات بين أربع قوى كبيرة تتفق في الأهداف والأساليب إلى حدود التطابق، فلماذا لا تشهرُ تحالفها؟
تخشى السعودية على مكانتها الدينية من الاهتزاز على مستوى العالم الإسلامي إذا أعلنت حلفاً مع «إسرائيل»، لذلك تفضل التنسيق السرّي، وكذلك تركيا التي يُفترض أنّ حكامها من الإخوان المسلمين، لذلك تقدم نفسها نصيراً للإسلام وعدواً لـ«إسرائيل»، على المستوى اللفظي فقط. لذلك تفضل كآل سعود الارتباط السري.
أما التكفيريون فيلعقون العسل «الإسرائيلي» وينسون مسح آثاره عن وجوههم. ولعلهم أفتوا بأنّ اليهود «أهل كتاب» ويجوز التعامل معهم بمنطق الجزية، وما يأخذونه منهم يندرج في هذا الإطار الفقهي.
لمجمل هذه الأوضاع تعتقد «إسرائيل» أنّ غارة دقيقة بحجم عملية القنيطرة قد تقود إلى مجابهة كبرى تؤدي تلقائياً إلى إشهار حلف إقليمي علني يجمعها بأعزائها في الرياض وأنقرة وما يسمى «الدولة الإسلامية في الشام والعراق» و«النصرة» و«المعارضة المعتدلة»، حسب القياس الأميركي، وعشرات التنظيمات المستولدة من رحم النفاق الديني، ومثل هذا الحلف يجذب إليه بلداناً عربية كثيرة.
أما الأهداف «الإسرائيلية» الأخرى فأولها محاولة الاستفادة القصوى من صعود «الإسلاموفوبيا» في الشارع الغربي لإحداث عداء طويل الأمد بين الغرب والإسلام، وهذا من شأنه التأثير على أعمال نحو 45 مليون مسلم يعملون في أوروبا وأميركا وأستراليا وكندا، وقد يجري ترحيل قسم كبير منهم إلى بلدانهم ما يسبب أزمات اجتماعية واقتصادية خطيرة.
ومن أهداف «إسرائيل» أيضاً تقسيم سورية لإخراجها من دائرة الصراع العربي ـ «الإسرائيلي»، ما يعني إنهاء هذا الصراع في شكل نهائي، لأنّ سورية هي محوره وقلبه.
ماذا عن الأهداف الإضافية؟ هي بالطبع الانتخابات التي يريد نتنياهو كسبها من جديد، وبما أنّ وضعه مهدّد نتيجة تراجع شعبيته، فإنّ حرباً جديدة من شأنها تحسين وضعه وعودته إلى الإمساك بزعامة الكيان الغاصب لأمد طويل.
ترى بعض الدراسات الأكاديمية «الإسرائيلية» أنّ مستقبل الكيان الغاصب رهنٌ بتحسن علاقاته مع بلدان الخليج، لأنّ الأوضاع الاقتصادية في الاتحاد الأوروبي وأميركا تتراجع في شكل كبير، ما يعني تقلصاً في حجم مساعداتها الموجهة له.
لذلك تبحث تل أبيب، من الآن، عن بديل نوعي، وهنا عليها أن تجمع بين السياسة والاقتصاد لتقديم نفسها كقوة عسكرية تضمن أمن ممالك النفط العربي، مقابل استثمارات في الاقتصاد وأسواق تستهلك منتجاتها، وهذه الطروحات يتقبلها الخليجيون فهم ضعفاء يخشون إيران ولديهم نفط وغاز بكميات خيالية، ولا ينتجون شيئاً، وهذا وضع مناسب لتل أبيب، لذلك تأتي الحرب على سورية بمثابة وصفة سحرية، تحقق كلّ ما تريده «إسرائيل».
في هذا الإطار، يجب وضع الغارة «الإسرائيلية» الدقيقة على حزب الله، فهي عملية صغيرة بأبعاد كبيرة جداً لمحاولة اغتنام تحولات الصراع في المنطقة، أما الهدف فهو قبول عضوية «إسرائيل» في النادي العربي الجديد الذي يترأسه «العربي» كعضو أصيل قائد يلعب دور «الفتوة» الذي يدافع عن «الغلابة» الخليجيين.
إنها إذاً مرحلة انكشاف المواقف وتبلور أحلاف جديدة، والنقطة الوحيدة التي تجمِّد هذه الاحتمالات هي استمرار المفاوضات بين إيران والسداسية الدولية، إلى جانب مفاوضات إيرانية ـ أميركية ثنائية حول ملفات إقليمية أخرى.
وفي انتظار نتائج هذه المفاوضات فإنّ أوضاعاً جديدة قد تتشكل في الإقليم وتؤسِّس لمرحلة خطيرة من صراعات عميقة هدفها رفض الانصياع لمشاريع «إسرائيل» وحلفائها الأتراك والسعوديين.
مقبل الأيام سيثبت أنّ الشعوب هي التي تصنع مصائرها بالكفاح والتضحيات، لا بالاستسلام والخنوع.
http://www.al-binaa.com/?article=26231
موقع المنار غير مسؤول عن النص وهو يعبّر عن وجهة نظر كاتبه