24-11-2024 05:52 PM بتوقيت القدس المحتلة

من ثقافة الهزيمة إلى ثقافة الانتصار

من ثقافة الهزيمة إلى ثقافة الانتصار

حزب الله أقام أرضية تاريخية يقع على النخبة العربية اليوم مسؤولية الانطلاق من معطياتها من اجل بناء منظومة فكرية متكاملة لثقافة الانتصار القائمة على يقينية إمكان ازالة اسرائيل

مثّلت الهزيمة التي مُني بها العرب في حزيران 1967 مفصلاً حاسماً في التاريخ العربي لجهة تأسيسها لصدمة تاريخية هزت الوجدان العربي عند الجماهير كما عند النخبة، فهي لم تكن إخفاقاً عسكرياً و لا حتى سياسياً لنظام ثوري فحسب بل كانت تجسيداً لسقوط مدوٍّ لمشروع نهضوي عربي طموح بقيادة مصر الناصرية.

الكاتب الجزائري عبد الله بن عمارة/ جريدة الأخبار

هزيمة العام 1967هذا الاحباط الجماعي الذي أحدثه انهيار التطلعات النهضوية، خلق حالة ثقافية تبرره، بما يصطلح عليه بـ«ثقافة الهزيمة»، التي أصبحت تنطلق من «يقينيات» أسست لها «نخبة مهزومة» من وحي قراءتها لأسباب الهزيمة كالقبول بإسرائيل ككيان طبيعي في المنطقة، وسقوط الخيار العسكري في مواجهة اسرائيل، واستحالة اختراق الجبهة الداخلية لإسرائيل، والرضوخ لإرادة المشروع الاميركي في المنطقة، وارتباط التنمية بالتبعية...

الخ، ترسخت هذه الثقافة لعقد من الزمن لتصل الى ذروة تمكنها من الوعي النخبوي العربي مع حدثين مفصليين هما توقيع مصر السادات اتفاق كامب ديفيد ودخول رأس المال الخليجي على خط تكريس ثقافة الهزيمة معلناً بداية انتقال صناعة القرار العربي من الحواضر العربية في القاهرة ودمشق الى الخليج بكل ما يعنيه من نكوص ثقافي وحضاري.

من نافل القول إن مقاربات «النخبة العربية» في قراءة نتائج الهزيمة تراوحت بين مزايدات ايديولوجية «يساروية» تبسيطية، اختزلت أسباب الهزيمة بفشل أنظمة قامت على أسس طبقية غير «بروليتارية»، أو «ليبرالوية» تحيلها الى غياب التعددية السياسية والديمقراطية - بمضمون يؤدي عملياً الى التبعية للغرب لا الى نقد موضوعي لحالة الاستبداد وغياب المؤسسات بدليل ارتباطها بالرأسمال الخليجي - أو «الاسلاموية» سواء التقليدية منها التي صلّى بعض رموزها صلاة الشكر احتفالاً بهزم اسرائيل «لنظام ناصر الكافر»، أو «الحركية» التي عزت الهزيمة الى نقص الوازع الايماني داعية الى مزيد من المحافظة والتقليد، أو حتى تلك «القراءات النقدية» التي استحضرت الدراسات الانتروبولوجية الغربية ذات الطبيعة الاستشراقية التي وجدت مكامن الهزيمة في اصل «الشخصية العربية».

حزب الله اقام ارضية تاريخية على النخبة العربية مسؤولية الانطلاق من معطياتها من اجل بناء منظومة لثقافة الانتصار

الا انه وفي هذا الّسياق النقدي، ظهرت مقاربات جادة في نقد الهزيمة استطاعت ان تتجاوز ضغوط الاحباط النفسي التي فرضها الواقع التاريخي للهزيمة التي تميزت بإعطائها الاولوية القصوى للوضع الداخلي (التخلف) على حساب الاسباب الخارجية (العدوان)، أي تلخصها في «التأخر التاريخي» كما نجد ذلك في كتابات ياسين الحافظ او عبد الله العروي والتي تتماهى الى حد كبير مع ما ذهب اليه مالك بن نبي من خلال مصطلح «القابلية للاستعمار»، وان كان ياسين الحافظ قد ذهب بعيداً في احالة اسباب الهزيمة على عجز العرب عن استيعاب مضامين الحداثة.

تأسست من رحم ثقافة الهزيمة منظومة فكرية هجينة أنتجت فكراً وادباً ضمن هذا النسق، مستفيدة من رعاية الرأسمال الخليجي لها، تجمع «قوى لبرالية» و«يسارية سابقة» اضافة لبعض قوى الاسلام السياسي التي دفعتها متطلبات التحالف مع الخليج الى مزيد من الجمود والسلفية.

لم تقف في مواجهة هذا الواقع الانهزامي سوى سوريا التي تحملت المسؤولية التي منحها اياها موقعها التاريخي والجيوسياسي كرائدة للنسق الاستقلالي في هذا المشرق، فكانت «الممانعة» الرد الفعال الذي صاغه الرئيس حافظ الاسد، والذي تلخص برفض الشروط الاسرائيلية «للتسويةّ» مع دعم مقاومة الاحتلال وتجنب الحرب من داخل «اسوارّ» الدولة الوطنية في سوريا، ما خلق ارضية واقعية تكاملت وشكلت السند الحقيقي لحزب الله كحركة مقاومة ذات بنية فكرية متحررة من كل تأثير لثقافة الهزيمة انطلقت من مضمون تجديدي للمقاومة أسقط مفهوم المقاومة المتداول آنذاك والذي عبرت عنه قوى تميزت بالمظاهر الاستعراضية غير المنضبطة، وبضبابية الهدف من القتال، وبالاستفادة من الرأسمال الخليجي الذي دفع بها نحو التسوية المذلة باسم «القرار الفلسطيني المستقل».

بدأت تجربة حزب الله في سياق مواجهة شاملة مع الاحتلال الاسرائيلي والاطلسي للبنان في 1982 برؤية واضحة المعالم للهدف من القتال كما للأساليب المحققة له بما اهله لتشكيل مدرسة جديدة في المقاومة راكمت تجارب من سبقها وطعمتها بنفس ابداعي حكم أداءها منذ انطلاقتها، افضت الى التحرير الكامل في 2000 والذي كان حدثاً مفصلياً في تاريخ الصراع مع المشروع الصهيوني ليس لكونه اول انسحاب اسرائيلي من ارض عربية من دون شروط تقود نحو التسوية - شكل نموذجاً انتقل الى قلب فلسطين المحتلة مع الانسحاب من غزة في 2005- بل لأنه نسف إحدى «يقينيات» ثقافة الهزيمة القائلة باستحالة مواجهة اسرائيل عسكرياً وانعدام القدرة على استرجاع الاراضي العربية المحتلة الا ضمن سياق تسووي على الطريقة الساداتية.

بقوة الواقع التاريخي الجديد الذي صنعه حزب الله بدأت تتشكل ملامح ثقافة مضادة لثقافة الهزيمة هي ثقافة الانتصار لخصها السيد نصر الله في خطاب «النصر الالهي» في 22-9-2006- بعبارة «زمن الهزائم قد ولى وقد جاء زمن الانتصارات». لم تكن هذه العبارة بالذات شعاراً حماسياً من زعيم سياسي يتوسل تعبئة جمهوره بخطاب شعبوي، وإنما تأسيس بنيوي لخطاب ثقافي جديد يجسد قوة دفع تاريخية كرستها حرب تموز 2006 بما هي افشال لحرب اميركية بأداتها الوظيفية الصهيونية لإعادة تشكيل المنطقة ككل وفق مشروعها الإمبراطوري.

السيد نصرالله في خطاب النصر العام 2000سرعان ما نقل الحزب التجربة الى قلب فلسطين المحتلة، ليكون العرب على موعد فريد مع التاريخ يخوضون فيه حروباً من داخل فلسطين المحتلة لينسف صاروخ «فجر» الذي سقط على تل ابيب عقيدة «الجدار الحديدي» الصهيونية ويهدم معها «يقينية» اخرى من يقينيات ثقافة الهزيمة السائدة. ولو قدر لياسين الحافظ ان يعيش الى هذا الزمن لشهد كيف أن «طليعة عربية» خرجت من قلب «التأخر الثقافي»، ابدعت في استعمال «منتجات الحداثة» كالصاروخ ومضادات الدروع... الخ، استطاعت ان تبعث الامل في الانتصار، بل واستطاعت ان ترسي معادلات ردع نوعية في تاريخ الصراع مع اسرائيل من المطار مقابل المطار الى تدمير المباني مقابل المبنى وصولاً الى المعادلة - الصدمة، التي اطلقها السيد نصر الله «تحرير الجليل».

ربما كانت صدفة ان يكتب عاموس هرئيل في «هآرتس» في حزيران الماضي عن جدية هذا السيناريو، ولكنها جاءت لترسخ حقيقة تاريخية يكابر رموز ثقافة الهزيمة في تقبلها وهي انه في حزيران 2014 تناقش «النخبة الاسرائيلية» سيناريو احتلال «الجليل» من قبل قوة عربية في نفس اجواء احتفالها بذكرى انتصارها على العرب في حزيران 1967 .

حزب الله الذي اختبر المشروع الاميركي وأداته الوظيفية الصهيونية واداءه في لبنان وفلسطين والعراق، يخوض اليوم معركة وجودية ضد القوى التكفيرية. وبنفس المنطق الموضوعي الذي يحكم ادارته للحروب المصيرية فإن الانتصار الحاسم عليها مسألة وقت.

حزب الله أقام أرضية تاريخية يقع على النخبة العربية اليوم مسؤولية الانطلاق من معطياتها من اجل بناء منظومة فكرية متكاملة لثقافة الانتصار القائمة على يقينية إمكان ازالة اسرائيل، ووحدة شعوب المشرق بكل مكوناته الاثنية والطائفية وإطلاق المشروع النهضوي المنشود المتحرر من التبعية للمشاريع الاستعمارية.