الخلل الحاصل في بُنية الدولة اللبنانية ما زال يفتح المجال لعدم إنضباط وطني يندُر أن نجد له مثيلاً في أية دولة أخرى،
أمين أبوراشد
عادت الوفود اللبنانية الخاصة، بالطائرات العامة والخاصة، بعد أن قدَّمت في السعودية واجبَي العزاء والتهنئة، وأعطت كما دائماً، إنطباعاً لدول العالم التي تمثَّلت كلٌّ منها بوفدٍ رسمي، أن الخلل الحاصل في بُنية الدولة اللبنانية ما زال يفتح المجال لعدم إنضباط وطني يندُر أن نجد له مثيلاً في أية دولة أخرى، وأن الفكر المؤسساتي يكاد ينقرض من أدائنا اللبناني الرسمي لمصلحة الأشخاص ومراكز القوى السياسية.
على هامش التعزية بالملك السعودي الراحل، والتهنئة بالملك الآتي، وتصريحات الإشادة بمزايا الإثنين وبالدعم السعودي الدائم للبنان على لسان رؤساء الوفود اللبنانية، يؤسفنا القول أن لا الذين عزُّوا ولا الذين هنأوا قادرون على إجابتنا عن سؤال بديهي وطبيعي: أين المأسسة في التعاطي بين الدول عند رحيل الأشخاص، وتحديداً بعد رحيل الرئيس الأسبق ميشال سليمان عن كرسي الحكم، ورحيل العاهل السعودي الى دنيا الحق، وهو صاحب "مكرمة" الثلاثة مليارات دولار منذ نحو أربعة عشر شهراً، وماذا لو انتظر الجيش اللبناني هذه الأسلحة ولم يستبدلها باللحم الحيّ، طالما مؤسساتنا الرسمية غائبة عن السمع ونظرها مُغَيَّب عن رؤية سماسرة الصفقة الفرنسيين والفيتوات الأميركية والإسرائيلية على بعض الأسلحة النوعية للجيش؟!
أين هم بعض أولائك الذين يحجُّون الى الخارج بمناسبة وبغير مناسبة بصفتهم الشخصية، وهم في حالة بحثٍ دائم عمَّن يتبناهم ليكونوا أدوات استعمال في الداخل اللبناني وأحياناً أدوات حادة في خاصرة الوطن، والى متى الشعور لديهم باليُتمِ والحاجة الى التبنِّي من قوة إقليمية أو دولية، والى متى استغلال غياب دولة المؤسسات ليكون كلٌّ منهم مؤسسة مستقلة بحدِّ ذاتها، يحمل حصَّته السياسية من الوطن بمحفظة "سامسونايت" بصرف النظر عن محتواها في الذهاب والإياب؟!
لدينا في لبنان أزمة إستيعاب لتاريخ وطنٍ صغير، سطَّر ويسطِّر منذ العام 2000 ملاحم كبيرة عجِزت وتعجز عنها كافة البلدان في المحيط العربي، وأزمة الإستيعاب هذه بلغت مراحل خطيرة لدى البعض من قطَّافي الفرص حتى عن الأضرحة، لدرجة التوهُّم أن سياسة لبنان على المستوى الوطني السيادي يُمكن أن يُسمح لطرف خارجي بإدارتها، وإننا نشهد والحق يُقال، أن العلَّة ليست في بعض الخارج بقدر ما هي في بعض الداخل، وما ذنب المؤسسات الدولية عندما تُسيء التعاطي معنا كدولة طالما نحن نتعاطى معها كفرقاء متفرِّقين والبعض منا "فاتح على حسابه" سياسة خارجية؟!
عندما غدا التوازن السياسي على مستوى القرار في لبنان مخالفاً للتوازن الشعبي، لم يعُد يعكس المصالح العليا للوطن، ودخلنا في مسايرة الأمر الواقع، بحيث بتنا نسمح بقبول هِبَة من دولة معيَّنة لأنها بنظر فريقٍ معيَّن"حريصة" على سلامة لبنان، ونرفضها من دولة أخرى لأنها بنظر الفريق نفسه ستطلب ثمناً سياسياً، مما يعني أننا فقدنا الثقة بأنفسنا وببعضنا نتيجة عدم التعاطي المؤسساتي الواحد الموحَّد مع الآخرين ودخلنا في استنسابية المصالح وطغت الشخصنة على المصلحة العامة وخرجنا من إطار الدولة حتى إشعارٍ آخر.
قد يكون من الحكمة، أن المقاومة أبعدت نفسها عن بازارات السياسة الضيقة، ومع كل التنويه بالحوار الداخلي الحاصل بين حزب الله وتيار المستقبل، وبأية حوارات أخرى، لتحصين الذات الشعبية اللبنانية من خروقات الخارج وارتدادات موجات التكفير والإرهاب، فهنيئاً لنا مؤسسة المقاومة بتنظيمها وانضباطها وثوابتها الوطنية البعيدة عن الشخصنة وزواريب المزايدات، الى جانب مؤسسة الجيش اللبناني التي حرَّرت نفسها من الوصايات السياسية المتردِّدة، بعد أن دفع الجيش دماء أبنائه ثمن هذا التحرُّر، وتبقى الحاضنة الشعبية للجيش والمقاومة هي الضمانة الأغلى والسلطة الأعلى بانتظار أن تعود الدولة من حضانة الأشخاص الى نفسها والى حضن الوطن ...