إذا كانت الرسوم الكاريكاتورية مسيئة للمعتقد الديني، فإن القتل لا يقل إساءة للمؤمن والملحد على حد سواء. ومن العبث اليوم محاولة تخليص فرنسا من «جاهليتها» العلمانية والديموقراطية بالعنف او بوسيلة الحوار.
بين زيارة الطهطاوي الى باريس والإرهاب الذي ضرب مجلة شارلي إيبدو الباريسية نحو قرنين. زائر باريس في عشرينيات القرن التاسع عشر، الشيخ الأزهري رفاعة رافع الطهطاوي ضمن بعثة علمية اوفدها محمد علي، حاكم مصر، الى فرنسا، أبهرت الشاب المصري وتركت بصماتها في فكره وعمله.
عاد الطهطاوي الى مصر في 1831 مفعماً بالأمل والعمل وأصدر كتابه الشهير «تلخيص الإبريز في حياة باريز» وسعى الى نقل النموذج الذي رآه في الغرب الى دياره، فأسس مدرسة لتعليم اللغات (مدرسة الألسن) وشرع في ترجمة الكتب، ومنها القوانين الفرنسية.
لم يرَ رجل الدين الآتي من صعيد مصر الى باريس صراعاً حضارياً او فكرياً او دينياً، بل حافزاً للتطوير والتغيير لمواكبة العصر الذي رأى فيه سواه ان الغرب متقدم على الشرق، ولا بدّ من مجاراته أو التمثل بمعارفه، كما كتب لاحقاً في التوجه عينه كثر من الافغاني الى محمد عبده وشكيب ارسلان وطه حسين وسواهم.
لم يكن الغرب في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين مصدر الشر بل مصدر الإلهام، علماً ان الصدام التاريخي المتكرر بين المسلمين والغرب المسيحي، من فيينا الى مدن فرنسا، سبق تلك الحقبة بقرون عديدة، في زمن كان فيه الشرق، والعالم الاسلامي تحديداً، اكثر تقدماً من أوروبا، والاسلام اكثر انفتاحاً من المسيحية الغربية.
اما اليوم، فالمواجهة انتقلت من صراع حضارات الى صراع قيم انتجتها الحضارات، وليس بالامكان ستره بالمفردات والتبريرات والتمنيات. فمن الصعب إقناع المواطن الفرنسي وصحافيي «شارلي إيبدو» بعد تعرضهم لإأبادة جماعية ألا ينشروا ما يريدون على صفحات تلطخت بالدم. ففرنسا، موطن هؤلاء، بدأت تتحول الى العلمانية منذ نحو قرنين واصطدمت مع الكنيسة الكاثوليكية في زمن لم يكن يقطن فرنسا ربما مسلم واحد، وهي ديموقراطية وجمهورية منذ اجيال، تتبنى طوعاً نظام قيم يختلف جذرياً عن معتقدات وقيم مناصري السلفية التكفيرية.
وهؤلاء الذين اختاروا العنف الديني وسيلة للتعبير عن الرأي، اصطدموا قبل وصولهم الى اوروبا مع الدولة السعودية في المسجد الحرام في مكة في العام 1979 بقيادة جهيمان العتيبي، وهو سليل اسرة نجدية وهابية، بهدف اعلان صهره محمد بن عبدالله القحطاني مهدياً منتظراً.
إن استباط الحجج والتبريرات كالحديث عن الاستعمار على انواعه ونفوذ الولايات المتحدة ودعمها المطلق لإسرائيل، لا يقدم ولا يؤخر بالنسبة الى الجهاد المعولم والداعي الى العنف باسم الدين لقتل الغير المختلف. وكذلك مسألة الانخراط المتعثر في المجتمعات الغربية التي لا تعجب الجهاديين اصلا، لا في فرنسا المتشددة علمانياً، ولا في البلدان الاسكندينافية الاكثر مرونة. فهذه ايضا اسباب لرفض الواقع الاجتماعي البائس، وليس لتبرير القتل في اي مجتمع او دولة بمعزل عن دين اهلها او نظامها السياسي. وإذا كان الجهاد مقدساً بالنسبة الى القاتلين، الاخوين كداشي، الفرنسيين في الجنسية، فإن العلمانية لا تقل قداسة بالنسبة الى رسامي الكاريكاتور وأهلهم ومحبيهم. وإذا كانت الرسوم الكاريكاتورية مسيئة للمعتقد الديني، فإن القتل لا يقل إساءة للمؤمن والملحد على حد سواء. ومن العبث اليوم محاولة تخليص فرنسا من «جاهليتها» العلمانية والديموقراطية بالعنف او بوسيلة الحوار.
الامبراطورية العثمانية الاسلامية دخلت القسطنطينية، عاصمة الامبراطورية البيزنطية المسيحية، وكادت تصل الى روما والغرب المسيحي. الصليبيون، الذين مارسوا العنف الديني بلا رحمة، هم من الكفار بالنسبة الى البعض، والفاتح باسم الدين لا يقل كفراً بالنسبة الى الضحية. والأمثلة التاريخية للقتل باسم الدين والمقدس لا تنتهي. إنه الصراع الأزلي بين دول وشعوب وأديان وأباطرة وعقلاء ومجانين، وذاكرة التاريخ مثقلة بالجروح والمواجهات، المتخيل منها والحقيقي.
لكن المتغير هو نظام القيم المجتمعي للدول والشعوب في زمن العولمة والانترنت وحقوق الانسان. إنها قيم غير موسمية وقد تكون سبباً للتحقير او التنوير، وقد يرفضها السلفي او غيره في الغرب والشرق، إلا أن استحضار المؤامرة والتبريرات للعنف الديني لن يغير الأديان وإيمان المؤمن ولا السياسة الاميركية الداعمة أبداً للاحتلال الاسرائيلي لفلسطين أو لمنظومة قِيَم ركيزتها الحرية والديموقراطية، وهي «غير قابلة للتفاوض»، كما قال الرئيس الفرنسي هولاند أخيراً في معهد العالم العربي في باريس.
وختامها سؤال: كيف نفسر أن اليابان التي احتُلت وأُهينت في الحرب العالمية الثانية لم تستجلب الدين والمؤامرة وصدام الحضارات، وأن بنغلادش، وأكثرية شعبها الذي يقدر بـ 150 مليون من المسلمين السنة وهي من افقر دول العالم هي اكثرها بعداً عن التطرف، وأن دول الخليج، مثلا، وهي من اكثر دول العالم أسلمة وأكثرها ثروات، خرج جهاديون من أبنائها يحاربونها وذهب اتباعهم يقتلون «كفار» باريس والعالم؟ فإذا كان الاستعمار الفرنسي إرثاً ثقيلاً، في الجزائر تحديداً، فأي استعمار كان يجب الرد عليه في الحرم المكي؟
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه