حتى قبل أن يبدأ الفيلم، اختار المخرج صوت الآذان كخلفية لشعار إستديو «وارنر برذرز»، الذي سبق أي مشهد، في كناية فجة رخيصة وكسولة تربط العنف في المشاهد القادمة من الفيلم بالإسلام
تنوعت طبيعة هجمات النقد الحادة التي انهالت على فيلم «قناص أميركي»، جديد كلينت ايستوود عن يوميات الجندي الأميركي كريس كايل في حرب العراق. فهناك من راح يُحقق في الكتاب الأصلي الذي استند إليه الفيلم (شارك الجندي بكتابته وصدر تحت عنوان: «السيرة الذاتـــيــة لأكثر القناصين فتكاً في التاريخ العسكري الأميركي»)، ليجد في انحراف الفيلم عن كثير من الوقائع الحقيقية، ذريعة لتوجيه النقد إلى الأول، والتشكيك في نوايا صانعيه، «لاستسهالهم تغيير الحقائق على هذا النحو»، بحثاً عن إثارة، جاءت مُغلفة بالكثير من البغض والعنصرية والإسلاموفوبيا.
وهناك فريق آخر اعتبر أن تقديم يوميات القناص الأميركي في حرب العراق بالمطلق، يُعد انحرافاً جديداً يثير التقزز لهوليوود. فكيف يمكن الاحتفاء بـ «قاتل» في عصر «داعش» الذي نعيشه؟ وهل تحتاج حرائق العالم إلى مزيد من الزيت؟ لتنال قصة جندي كان يفتخر بأنه قتل ما يُقارب 300 عراقياً ببندقيته وأطلق على العراقيين وصف «الوحوش» في كتابه، هذا «التكريم» الهوليوودي، وبتوقيع واحداً من أبرز الأسماء السينمائية المُعاصرة.
نجاح مستغرب
يَتَشَبَّث الذين يقفون خلف الفيلم في أحاديثهم الصحافية التي ترافق حملات الترويج له في أوروبا، (يحصد الملايين منذ أسابيع في شباك التذاكر الأميركية وبوتيرة غير مسبوقة للأفلام التي تتناول حروباً مُعاصرة كما لم يعرف هذا النجاح التجاري أياً من أفلام حرب العراق السابقة)، بأن هذا الأخير ليس معنياً بحرب العراق، وإنه دراسة نفسيّة درامية عن شخصياته، وتقديم جديد عصري للـ «كاوبوي» الأميركي، الذي يعرفه المخرج أكثر من سواه، فهو قدمه في أعمال عدة، كبطل غالباً وأحياناً كمخرج. تبدو من الاستحالة عزل الفيلم ومناخه العام عن حرب العراق. فهو يستند إلى كتاب لقناص قضى سنوات هناك، وهذا وحده يمنح أحداث الفيلم الثقل النفسيّ ومصداقية تلازم السينما المأخوذة عن الواقع. كما إن حرب العراق لن تكون في خلفية الأحداث، بل المُعترك الأخلاقي لأبطال الحكاية، وعبر وقائعها ستتكشف عن «أصول» الرجال. أما مفاعيلها فستمتد إلى المدن الأميركية الصغيرة التي أتى منها الجنود.
يأتي فيلم «قناص أميركي»، بعد خمس سنوات على آخر فيلم هوليوودي كبير عن حرب العراق («المنطقة الخضراء» للمخرج باول غرينغراس). وست سنوات من فيلم «خزانة الألم» للأميركية كاثرين بيغلو، لكن الفيلم الجديد هذا لا يحمل أياً من جديّة أو البنية السينمائية الرصينة لسابقيه. فالأول كان استعادة غلب عليها الإنصاف لفترة تاريخية حرجة أعقبت سقوط نظام صدام حسين، فيما مثل «خزانة الألم» إضافة مُهمة على الصعيدين الشكليّ والبنائي لمجموعة الأفلام التي صورت إدمان الجنود على الحروب.
وإذا كان لا بد من البحث عن مرجعية ما لفيلم كلينت ايستوود من تاريخ هوليوود، فيجب العودة إلى عام 2000، بالتحديد إلى فيلم «قواعد الاشتباك» للمخرج وليام فريدكن. والذي قدم قصة عن اليمن. فهناك الكثير في «قناص أميركي»، الذي يُذكر بذلك الفيلم وبهوليوود قديمة عنصرية لئيمة، لا تتورع عن الذهاب إلى مسافات بعيدة لشيطنة شُعوب بأكملها.
صوت الآذان
حتى قبل أن يبدأ الفيلم، اختار المخرج صوت الآذان كخلفية لشعار إستديو «وارنر برذرز»، الذي سبق أي مشهد، في كناية فجة رخيصة وكسولة تربط العنف في المشاهد القادمة من الفيلم بالإسلام. جاءت هذه البداية صادمة كثيراً، فلقد كنا نظن إن هوليوود ودعت هذا النوع البدائي من «الإسلاموفوبيا» بلا رجعة، ومنذ أن غيرت أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 وجه العالم. أما المشهد الافتتاحي فسيكون واحداً من المشاهد الشديدة القسوة والإشكاليّة، إذ إن الفيلم يتجاوز ما فعله «كريس» نفسه (حسب الكتاب)، فالقناص سيوجه النار إلى امرأة وطفل عراقيين، يظهرهما الفيلم وهما يحملان سلاحاً خاصاً بضرب الدبابات، فيما تقول رواية الكتاب، إن المرأة فقط كانت تحمل قنبلة يدوية صغيرة.
هذا المشهد سيضبط إيقاع الفيلم، الأحادي النظرة إلى حدود الانحياز الكامل، والذي قام باختزال حرب العراق المُعقدة، إلى صراعات شديدة التسطيح، بين القناص الأميركي ورجل عراقي، ظهر من دون شخصية واضحة، ولم يُمنح دقيقة واحدة من الحوار، وكان يظهر بين فينة وأخرى، ليعيد التذكير بالعدو السيء القاسي الطباع.
لا يعبر «كريس كايل» في الفيلم عن نموذج إنساني أو درامي خاص. هو هجين من خيالات المخرج والمؤلف وأداء غير منتظم للنجم الشاب برادلي كوبر. فالمشاهد التي قدمت عن حياة الجندي قبل حرب العراق كانت شديدة النمطية، تجنبت إلى حدود كبيرة محطات الطفولة المعتمة في حياة الشاب وأبرزت بالمقابل ماضٍ مشذب له. هذا الأمر سيتكرر مع محاولات «تطهير» الجندي من خطاياه في النصف الآخر في الفيلم، في فعل لا ينسجم مع سيرة الجندي الحقيقية (عمل بعد خدمته العسكرية في العراق كحارس شخصيّ للسياسة اليمينيّة المثيرة للجدل سارة بالين وقتل في عام 2013 على يد جندي عائد من العراق).
يواصل كلينت ايستوود في «القناص الأميركي»، الأسلوب التحريضي إلى حدود الاستغلال العاطفي. يأتي «التحريض» في الفيلم هذا ضد العراقيين في شكل رئيسي. فالفيلم لا يظهر شخصية عراقية سويّة واحدة، ولا يمنح أي منهم الفرصة الدرامية لطلب المغفرة، وكما فعل مع الشخصية الرئيسية، التي أراد الفيلم أن يقنعنا بأن أفكارها قد تغيرت قليلاً بعد تجارب القتال، على رغم إن «كريس كايل»، كان يعود كل مرة، وبعد فترات العطلات التي قضاها مع عائلته في أميركا، بالعنف والهمة نفسها إلى الحرب في العراق.
يحيط كلينت ايستوود حياته الخاصة بالكتمان. هو يعيش منذ سنوات طويلة في مدينة أميركية صغيرة، بعيداً كثيراً عن تلال هوليوود. وتكاد إطلالاته الإعلامية تكون نادرة. هذا الانعزال ساعد كثيراً في ترسيخ مكانة أيقونية خاصة للنجم الأميركي، والتي أصابها الكثير من الضرر قبل عامين، عندما ظهر في حملة السياسي الجمهوري الأميركي ميت رومني للانتخابات الرئاسية، متحدثاً كعجوز مخبول إلى كرسي فارغ على المنصة، مُفترضاً حواراً طويلاً مع باراك أوباما.
تلك الدقائق العشر المُتلفزة الشديدة الإحراج من سيرة كلينت ايستوود، تشي بالكثير عن مواقف الإنسان تجاه ما حوله، وتدفع إلى قراءات جديدة لسيرته السينمائية وتفسر لماذا اختار موضوعات بذاتها. فهو ربما لم يخرج أبداً من أسر شخصية «هاري كالاهان» بطل سلسلة «هاري القذر»، الشرطي القاسيّ الذي يُمجد العنف والسلاح ويحتقر النظام التقليدي في أعماقه، والتي لعبها لسنوات. كما تجعل دوره في «غران تورينو»، (من آخر إطلالاته السينمائية كممثل) جدليّاً كثيراً، إذ يلعب هناك دور عجوز أبيض لا يريد في البداية أن يتقبل التغييرات التي لحقت بالمجتمع الأميركي، وبالخصوص للوجه الأثني له.
يكاد كلينت ايستوود أن يكون الحلقة الوحيدة الباقية التي تصل هوليوود قديمة بأخرى جديدة، وإذا قُدر أن يكون «القناص الأميركي»، هو الأخير للمخرج الذي يقترب من 85 سنة، فربما سيكون هذا الفيلم علامة فارقة ومناسبة للاحتفال بالتخلص من تركة هوليوودية عنصرية ثقيلة، بينت ردود الأفعال الحادة الأخيرة، بأن لا مكان لها في هذا الزمان.