إسرائيل التي تخشاها جيوش (علتها ليست فيها بل في النظام السياسي الذي يقبض عليها) باتت تخشى المقاومة. جرّبت العدوان على لبنان في العام 2006، وخرجت خائبة. المقاومة اليوم أقوى. جهوزيتها ممتلئة. كفاءتها ناصعة.
التاريخ الفلسطيني لا شبيه له منذ مئة عام، وهو يُكتب بطريقة مضادة. مئة عام من التحولات والانعطافات والتغيرات. مئة عام من الحروب المنتصرة والحروب الخاسرة، فيها وُلدت دول واستقلّت شعوب وأنشئت منظمات دولية وأقرت مواثيق إنسانية.
مئة عام سقطت فيها إمبراطوريات (المجرية، البروسية، العثمانية، الروسية) وطحنت فاشيات ونازيات وستالينيات بربرية. مئة عام من انتقال القوة من قارة إلى قارة، وانزياح للتأثير والنفوذ من دولة إلى دول. مئة عام من المواقع الإنسانية والاكتشافات العلمية المذهلة والتعبيرات الثقافية الراقية والإبداعات الأدبية الثرية و... مئة عام ولاَّدة وقائع وأحوال.
آسيا نهضت من سباتها، أفريقيا تحررت من الأبيض واستقلت دولها. أميركا اللاتينية وجدت ديموقراطيتها برغم الصلف الأميركي. العالم العربي انتقل من منحة غربية إلى محنة دائمة، برغم ما يدره النفط ويبدده الخلف الطالح، فاصطفى لنفسه أنظمة استبداد وتخلف وفساد، وأغلق الأبواب على شعوب مؤهلة لتكون محصنة بالمواطنة والانتماء إلى وطن بهوية عربية منفتحة على الحرية والكرامة والديموقراطية.
إلا فلسطين.
التاريخ الفلسطيني لا شبيه له: أرض لشعب عميق الجذور والحضور أعطيت في غفلة حرب، لشتات صهيوني ـــ يهودي. عقوبة بلا ارتكاب ولا ذنب. يهود «العالم المتحضر» كانوا عرضة لهمجية بربرية من قبل الأبيض صاحب النقاء العنصري ومروّج الأفكار «التنويرية» المترافقة مع «شرعة الفتح» لأسواق تدر سلعاً، من تعب الفقراء وأشقياء البشرة والدين واللغة، في قارات البؤس والظلم والاحتلال.
فلسطين العربية لم ترتكب إثماً بحق اليهود أو سواهم. كانت تحت النير العثماني وولاته وسلاطينه. وعدت نفسها بالحرية، عشيّة الثورة العربية وإنجاز التحرر من السلطنة التركية الجائرة، بعنصريتها وغربتها التامة عن العروبة... فجأة، صارت صكاً ليهود بتوقيع بلفور (وهو كاره لليهود) وباحتضان بريطاني وموافقة من عديد الدول الوالغة في الدم اليهودي والاضطهاد اللاسامي. دول غربية نقية اللون مارست طيلة قرون التعذيب والاقتلاع والطرد والسلب والنبذ وصولاً إلى إبداع وسائل قتل، بلغت حدود الإبادات، والتي توّجها هتلر بقتل وإفناء الملايين، بهدف «تخليص البشرية من آثام اليهود، وهي آثام مفطور عليها اليهودي منذ نشأته».
لم يكن لفلسطين أي شبهة في اضطهاد اليهود ولا كان للعرب ايضاً، كانوا مضطهدين عثمانياً، وموعودين بالحرية، كالولايات السورية والعربية الأخرى. غير أن دول الغرب الديموقراطية (اسم على غير مسمى) اجترحت حلاً للتخلص من اليهود عندها، بدفعهم إلى وطن، بمعتقد خرافي (شعب الله المختار الذي منح فلسطين بوعد إلهي مزعوم) ليكونوا رأس حربة لاستعمار، يتزين بلقب الانتداب، على كيانات مشوَّهة غير قادرة على الحياة والتقدم والإنجاز، ودلت المئة عام السالفة، إلى أين انتهت هذه الكيانات وأنظمتها وجيوشها وشعوبها وأديانها وحياتها.
اخترع العالم أسطورة فاسقة: «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض». لا حرف في جملة العار هذه له نصيب من الصدقية. ومع ذلك، جاءت الأحداث القسرية لتحويل فلسطين إلى أرض بلا شعب، طرداً وظلماً وقتلاً وإبادة وتهجيراً، إلى شعب يهوِّد الأرض والتاريخ والزمن والمستقبل.
(كل ما جاء أعلاه، يمكن قراءته في ما توصل إليه المؤرخون الجدد في إسرائيل. أما براءة الفلسطيني من الأذى لليهودي، فيمكن قراءتها في صفحات كثيرة من كتاب جيلبير الأشقر، وتحديداً مواقف القوى الفلسطينية (باستثناء الحسيني) مما تعرض له اليهود على يدي النازية في أفران الإبادة).
مئة عام من التاريخ الفلسطيني مرصَّعة بالنضال والمقاومة، ومئة عام من الخسائر كذلك. سجل المقاومة لا تُحصى وقائعه، منذ العشرينيات، حتى العدوان الأخير على غزة. لا موسوعة تتسع لأعداد الحركات النضالية وحركات المقاومة. لا قدرة للمّ شمل الشهداء والجرحى والمعذبين والمقتلعين والمنفيين والمهجرين تحت خيام السماء الفارغة من أي احتضان. لا نسمي ولا نعدد الحركات. يكفي أن البيوت الفلسطينية مسكونة بصور الشهداء. على جدران البيت الفلسطيني، آية الشهيد وصورته تحتل الصدارة، قبل «آية الكرسي». يكفي أن الفلسطيني منذ إقامة دول فلسطين، كان يقيم إما في سجن الاحتلال، أو في الأرض السجينة، أو في المخيم المسجون والمحروس بعيون عسس الأنظمة.
حاول الفلسطيني أن يستعيد أرضه، كل أرضه وفشل. عمل المستحيل ولم يفز. حاول أن يستعيدها بالفتات (أوسلو)، قطعة قطعة، فانتُزعت منه شبراً شبراً. أورث الجيل الثاني محنته، فامتحن. فاز بالنضال وعجز عن الإنجاز. الفلسطيني، ليس من أحد معه. العالم ضده. «إخوته» العرب، هم «الإخوة الأعداء». جرّبهم مراراً. اتكل عليهم في حروب خسروها برغم جلبة الكلام عن «فلسطين الجريحة» و «فلسطين القضية».
حمل الفلسطيني سلاحه ودمه وطاف به مقاتلاً فدائياً ليعود إلى فلسطين، فاتهموه بالإرهاب. سفك «الإخوة الأعداء» من الدم الفلسطيني ما يفوق السفك الصهيوني... انتهى الكفاح المسلح الفلسطيني بعد غزو بيروت وتشريد المقاتلين إلى إنجاب أطفال الحجارة، ومواجهتها بآلة تكسير العظام. انكسرت العظام ولم تنكسر الإرادات... الفلسطيني قاتل بكل شيء، بالموقف، بالكلمة، بالقصيدة، بالرصاصة، بالبندقية، بالحجارة، بالسواعد، بالحزن، بالمأساة، بكل ما أوتي من ... ولم يتغير التاريخ أبداً. فلسطين ليست موجودة ولن. وحدها إسرائيل دولة اليهود. وكل ما عدا ذلك «أغيار».
مئة عام من التاريخ، والفلسطيني يبحث بدمه وعبقرية صموده، عن الطريق إلى فلسطين. سلك الطرق كلها، وكلما توغل في إحداها، كانت فلسطين تبتعد. حتى «طريق أوسلو» انتهت إلى محطة تكريس الاستيطان والاحتلال.
بلى!
هناك تاريخ مختلف لفلسطين. ولكنه تاريخ يرهص بإمكان. التفاؤل بالتحرير صعب جداً، ولكنه ممكن، إذا...
«إسرائيل» لا تخشى أي جيش عربي. هي في الأصل، جيوش لحماية العروش الملكية والعروش الجمهورية. جيوش بلا عدة فلسطينية. إسرائيل بنت جيشاً كدولة. لا دولة لليهود بلا جيش... عالمان مختلفان: جيوش لأنظمة، وجيش لدولة. ومن دون تعب الكتابة والتذكير، الجيوش العربية، بعدما خسرت مراراً، وبعدما شُبِّه لها أن انتصرت في «حرب تشرين»، خرَّت ساجدة في «كامب ديفيد». امتهان الخسارة والبناء عليها، عقيدة راسخة ومربحة لأركان النظام العربي. أن تلوذ بالضعف، تبرئة من مسؤولية المواجهة.
بلى!
هناك تاريخ مختلف لفلسطين، بدءاً من لبنان المحرَّر وقطاع غزة المحرر والمحاصر. لبنان، بسبب فلسطينيته، برغم كل ما يقال عنها من سلاّخي الانعزال القديم والحديث، وبسبب الحرية التي تؤمنها الطائفية (للطائفية قبائح كثيرة وحسنة واحدة، هي الحرية)، تمكنت المقاومة اللبنانية من دحر الاحتلال، من كل بقعة لبنانية، بعد غزو لبنان في العام 1982... المقاومة الوطنية، القومية واليسارية والعلمانية والتقدمية حررت بيروت والجبل والإقليم وصيدا. أما المقاومة الإسلامية، فقد أنجزت ما هو مضاد للتاريخ الفلسطيني. أجْلَت بالقوة، وبلا ثمن، احتلالاً دام 18 عاماً. وهو ما أنجزته «حماس» و «الجهاد» و «المنظمات الفلسطينية» في غزة، حيث أجبرت شارون على تفكيك المستعمرات بكاملها. إسرائيل التي تخشاها جيوش (علتها ليست فيها بل في النظام السياسي الذي يقبض عليها) باتت تخشى المقاومة. جرّبت العدوان على لبنان في العام 2006، وخرجت خائبة. المقاومة اليوم أقوى. جهوزيتها ممتلئة. كفاءتها ناصعة. صدقيتها لا شك فيها. استعداداتها لا تهدأ، وقيادتها ذات موهبة في اتخاذ القرار والدفاع عنه وتأمين نصاب النجاح له.
هذا جديد جديد في الصراع ضد إسرائيل.
جرّبت إسرائيل مراراً الاعتداء على غزة. اعتدت ودمرت وقهرت ولكنها لم تهزم الإرادة القتالية لدى قلة محاصرة «من الإخوة أكثر من الأعداء». وما تزال غزة تقاوم المخرز.
كلها أحداث مضادة للتاريخ الفلسطيني، ولكنها غير كافية لكتابة تاريخ فلسطيني مضاد. إذا لم يتم التأسيس لكتابة تاريخ التحرير، فستظل المقاومة على التخوم، شبيهة بالجيوش.
لا بد من شرح. المقاومة الإسلامية في لبنان، مقيَّدة باعتبارات داخلية وإقليمية ودولية. هي تستعد وتتدرب وتتأهل، وليس أمامها غير رد اعتداء، وحراسة قواعد اشتباك. الخط الأزرق مانع وممتنع، وممنوع عبوره. وهناك خشية من أن تصبح المقاومة، بجهوزية قتالية عالية وفذَّة، ومضطرة لأن تتعامل ميدانياً، بذهنية، هي من طبيعة الجيوش. فائض القوة ضروري دائماً، لكن إذا تم تجميده في استراتيجية دفاعية، يخشى أن تتفوّق العقيدة العسكرية على عقيدة المقاومة. المقاومة الإسلامية، لبنانية طبعاً، ولكن هل هي لبنانية فقط؟ هي ليست كذلك، والدليل عبورها إلى سوريا، والاشتراك في القتال هناك، متخطية بذلك اعتبارات الكيان والنظام والطوائف والظروف الدولية وموازين القوى الإقليمية.
سؤال: أليس المطلوب أن تصير المقاومة طريقاً للتحرير. تحرير فلسطين؟ الجواب النظري سهل، إيجاباً أو سلباً. لكنه صعب ومعقد، بسبب ما لدى إسرائيل من أوزان ثقيلة عسكرياً ودولياً. مسموح أن تُجرح إسرائيل وليس مسموحاً أن تخسر أو أن تُهزم. العالم كله سيكون في خدمة إسرائيل. لنتذكر الجسر الجوي الذي أقامه نيكسون في «حرب تشرين»، لإنقاذ إسرائيل من الانهيار في سيناء، ولدعمها كي تستعيد جزءاً من قناة السويس وتنتقل إلى الضفة الأخرى (معركة الدفرسوار).
المقاومة لها مقياس مختلف. ولكن أي استراتيجية لهذه المقاومة وسواها؟ استراتيجية التحرير تقضي بممارسة المقاومة ضد الاحتلال حيث هو. هذا ليس متوفراً في فلسطين، و «حماس» باتت قوة دفاع عن «غزة» لا أكثر، في الوقت الراهن.
إذاً ماذا؟
لا بد من بداية، لعل أسهلها إقامة محور المقاومة. محور يضم إلى جانب «حزب الله»، «حماس» و «الجهاد» والحركات الفلسطينية الجدية. هذا محور لفلسطين، بمعزل عن العقائد والمذاهب والانتماءات. إذا كانت فلسطين لا تجمع هذه القوى، فالعلة ليست فيها، بل في هذه القوى... كل الأسباب والاعتراضات تسقط أمام جلالة الهدف: تحرير فلسطين.
هكذا، يبدأ تاريخ مضاد لفلسطين: نضال وانتصار. بهذا، ينتهي عصر النضال والخسران.
تستحق فلسطين بعد مئة عام أن نؤمن بها أولاً. وتستحق هي أن تؤمن بالمقاومة، وتحديداً، بمثل هذه المقاومة اللبنانية الإسلامية وشقيقاتها الفلسطينية.
هل يبدأ ذلك قريباً؟
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه