الزحف اللبناني إلى الرياض لا يختلف كثيراً عن الزحف البري الذي كانت تشهده طريق دمشق مروراً بعنجر. لكل غايته وهدفه في إلقاء التحية على الملك الجديد
اللبنانيون أيضاً يبايعون سلمان: هل يتذكرهم؟
ايلي الفرزلي
الزحف اللبناني إلى الرياض لا يختلف كثيراً عن الزحف البري الذي كانت تشهده طريق دمشق مروراً بعنجر. لكل غايته وهدفه في إلقاء التحية على الملك الجديد.. ومن لا يتذكره الملك سلمان أو أحد أفراد حاشيته لن يكون عليه سوى انتظار مناسبة أخرى.
أما من ظنّ أن كسره للروتين وجلوسه في القاعة المخصصة للرؤساء سيجعله في صف هؤلاء، فيعرف أكثر من غيره أن كسر قواعد الروتين لا تعني بالضرورة كسر قواعد الرئاسة في لبنان. حتى أن أي مرشح يعتبر نفسه الأجدر لرئاسة الجمهورية يعرف أن زيارة الرياض لن تعزز مكانته عند أهل الحكم الجديد، إنما ستوضع زيارته في خانتها الطبيعية: تقديم واجب العزاء.
وإن دلّ الزحف العربي والدولي إلى الرياض على شيء إنما على تعامل الكل معها، بوصفها مركز الثقل الأكبر في العالم العربي. صحيح أن الثروة النفطية هي مبرر هذا الدور، لكن ذلك لا يزعج المملكة التي تعرف أن قوتها مستمدة أولاً وأخيراً من عومها على آبار النفط.
تلك الثروة التي جعلتها عصب الاقتصاد العالمي، تجعلها أيضاً خارج أي تصنيف أو تقييم، فيكون طبيعياً أن يحق لها ما لا يحق لغيرها، ويكون طبيعياً ومحبباً، حتى بالنسبة للولايات المتحدة، أن تتحكم عائلة بدولة، بعيداً عن كل معايير الديموقراطية التي «تحرص» واشنطن على نشرها في بقية أنحاء العالم، ولاسيما في سوريا. علماً أنه يحلو للبعض القول إن الذين يحاربون الرئيس بشار الأسد من الدول، إنما يعاقبونه على حسناته لا على سيئاته. هؤلاء يرون أنه «بالرغم من أن مظلة مبررات الحرب على سوريا تُربط بغياب الديموقراطية وتحكّم عائلة بالحكم، إلا أن سببها الفعلي هو الموقف من إسرائيل والعلاقة مع ايران والقول لا لأميركا، التي كان نسف المبادرة العربية للسلام أحد مفاصلها، بعدما أدخل السوري إليها بند عودة اللاجئين».
وحتى تصل المملكة إلى هذه المرتبة الدولية، عملت عشرات السنين وأنفقت مئات مليارات الدولارات وتحملت الكثير من الضغوط. كانت مصر «بعبعاً» دائماً بالنسبة لها، فأعاقت الناصرية كل مخططاتها، ووصلت إلى حدودها في اليمن والعراق وسوريا.
كان الصراع محتدماً بين الإسلام السياسي ذي الوجه السعودي والقومية العربية التي كانت تمثلها مصر. علماً أن الخلاف بين البلدين لم يكن جديداً حينها، بل يعود إلى بداية القرن التاسع عشر، عندما أرسل والي مصر محمد علي باشا ابنه إبراهيم باشا إلى الحجاز للقضاء على الحكم الوهابي، وكان له ما أراد حيث أحكم سيطرته على السعودية في العام 1818، بعد أن استسلم عبد الله بن سعود قائد الوهابيين آنذاك. منذ ذلك الحين والذهنية السعودية لم تتغير كثيراً: قوة مصر خطر على المملكة.
مع انهيار الإمبراطورية العثمانية الذي تبعه توحيد المناطق السعودية، عاشت الدولة الناشئة استقراراً سياسياً ملحوظاً، لكن اكتشاف النفط جعل طموحها يفوق حدودها. وصول الضابط جمال عبد الناصر إلى الحكم في مصر جمّد كل شيء. عاشت السعودية مع التجربة الناصرية أسوأ مراحلها، فيما كان الفكر القومي يتوغل عميقا في الشارع العربي من المحيط الى الخليج.
كانت الذروة في العام 1967. بعد الهزيمة، بدأ العد التنازلي لنهاية عصر المد العروبي، الذي وصل فعلاً إلى نهايته مع اتفاقية «كامب دايفيد» في العام 1978. عادت مصر إلى خلف حدودها، فصار المال «أقوى الجيوش العربية». حكمت السعودية المنطقة، من دون وجود منافس حقيقي، بعد أن تغلب المال على الفكر العروبي. واستفادت من نفطها لتنشر «إسلامها الوهابي» على حساب «إسلام الأزهر»، بعدما تفوقت عليه في اجتذاب طلاب الشريعة، ومن ثم إرسالهم إلى بلدانهم محمّلين بالمال، لبناء المدارس الوهابية، التي انتشرت في مختلف أقطار العالم العربي والعالم.. وحتى في مصر، ولا تزال.
قبل التسعينيات، كانت إيران مستنزفة بحرب بدأت غداة الثورة الخمينية (في العام 1980 واستمرت حتى العام 1988). لكن بعد انتهاء الحرب عبر خيار «تجرّع السم» وتثبيت أقدامها، التفتت إلى مصالحها في العالم العربي. وصلت إلى اليمن والعراق وسوريا ولبنان، فعاد زمن الثنائية. وكما كانت مصر.. صارت إيران، لكن عنوان الصراع تغير، فتحوّل من «إسلام سياسي مقابل قومية عربية وشيوعية» إلى «سنّة مقابل شيعة». أما في ما يتعلق بالموقف من الصراع العربي الإسرائيلي، فصارت دولة مع السلام مع اسرائيل.. وأخرى مع المقاومة.
مؤخراً، وبعد انطلاق شرارة الربيع العربي، سعت تركيا للاستفادة من هذا الصراع، لتوسع نفوذها في المنطقة، خصوصا بعد إعلان الأميركي مشروع انسحابه إلى بحر الصين. رمت كل أوراقها خلف «الأخوان المسلمين» في مصر وسوريا وليبيا وتونس. انتفضت السعودية على الأمر الواقع الذي فرض في مصر، ونجحت في إطاحة «الأخوان». في ليبيا أيضاً نجحت في إقصائهم، فيما تكفّل بشار الأسد بمواجهة مشروعهم في سوريا.
حُجّم الدور التركي، فيما استمر الصراع على النفوذ بين إيران والسعودية. لبنان كان في صلب هذا الصراع. معادلة السلام مقابل المقاومة لا تزال حاضرة بقوة في لبنان. لا تقدر أي منهما على التفوق. صمود بشار الأسد ساهم في تجميد الوضع اللبناني أيضاً.
أما الصراع القديم بين مصر والسعودية، فتحول حالياً إلى «حلف مصلحة» عنوانه القضاء على «الأخوان المسلمين». لم تتضرر إيران من هذا التقارب فغضّت النظر، خصوصا بعدما شاهدت كيف تمكّن الأسد، بصموده، من جعل أخصامه يعيدون النظر بأولوياتهم. دخل المصري بوساطة بين النظام والمعارضة، بعدما سبق أن أعاد تثبيت علاقته بنظام الأسد، الذي يجمعه به العداء لـ «الأخوان» أيضاً، ولو مواربة أو من خلال التنسيق الأمني. استثنت مصر عن اجتماع المعارضة الذي استضافته مؤخراً، كل شخصية لها شبهة الانتماء إلى «الأخوان» أو إلى معارضة فنادق تركيا. السعودية ظلت بعيدة عن الواجهة، جرياً على عادتها في العمل في الخفاء. أغمضت عينيها عن خطوة حليفها المصري، فسجلت تأييداً مستتراً لما يقوم به، من دون أن تضطر إلى إعلان «الهزيمة».
رحل الملك عبدالله لكن شيئاً لا يبدو أنه قد يتغير في طريقة التعامل مع الملفات الإقليمية. ربط النزاع مع إيران مستمر. تبني النظام المصري الجديد مستمر. ومباركة «الستاتيكو» اللبناني مستمرة، إلى حين انقشاع الرؤية في أكثر من ساحة، لاسيما منها الساحة السورية وساحة الاتفاق النووي. حينها سيكون لكل حادث حديث، ولن يكون مستبعداً إعادة إحياء معادلات الأحرف الأولى.
http://assafir.com/Article/2/399360
موقع المنار غير مسؤول عن النص وهو يعبّر عن وجهة نظر كاتبه