ألقى سماحة العلاّمة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء ف
ألقى سماحة العلاّمة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:تعود القضيَّة الفلسطينيَّة إلى الواجهة، مع سعي السّلطة الفلسطينيَّة وإصرارها على تقديم طلب الانضمام إلى الأمم المتَّحدة كدولةٍ، علماً أنّ هذه الخطوة بالنسبة لنا لا تمثِّل الكثير في الحسابات الإسلاميَّة والعربيَّة والفلسطينيَّة، كونها تتحدَّث عن دولة بحدود العام 1967، وتصل إلى ما يوازي 22% من أرض فلسطين التَّاريخيَّة، في الوقت الّذي نؤكِّد أنَّ فلسطين؛ كلّ فلسطين، ينبغي أن تعود بأرضها كاملة إلى شعبها بكلِّ تنوّعاته.
إلا أنَّ الإدارات الغربيَّة الّتي استشعرت ضعف الكيان الصّهيوني وعزلته، في ظل ما يحدث في العالم العربيّ، ولا سيّما ما حصل أخيراً في مصر وتركيا، عملت على تأمين أوسع حماية ممكنة له، وسعت إلى تطويق هذه الخطوة في مهدها والالتفاف عليها، بالدَّعوة للعودة إلى المفاوضات المباشرة مع العدوّ.لذلك، استنفرت الإدارة الأميركيَّة كلَّ جهودها الدّبلوماسيَّة ومبعوثيها، حتَّى لا تحرج كيان العدوِّ وتضعه أمام مأزقٍ جديدٍ حيال قرارات الأمم المتَّحدة.
لقد أكَّدت الإدارة الأميركيَّة مجدَّداً، أنَّ انحيازها للكيان الصّهيونيّ سوف يستمرّ ولو كان في مواجهة العالم كلِّه، وبرز الرَّئيس الأميركيّ أوباما بوجهه الحقيقيّ، حيث تحدّث بعيداً عن كلّ مساحيق التَّجميل السياسيَّة الخادعة، ودعا السلطة الفلسطينيَّة إلى عدم القيام بهذه الخطوة والعودة إلى طاولة المفاوضات.. وإلا فإنَّ العقوبات سوف تنتظر الفلسطينيّين، وأبرزها استخدام الفيتّو لمنع قيام دولة فلسطينيَّة حتَّى على الورق، أو في مساحة محدودة من أرض فلسطين.
ويتكرَّر الأمر مع الاتِّحاد الأوروبيّ الّذي كنَّا نأمل أن يتميَّز موقفه عن الموقف الأمريكيّ، وأن يكون منسجماً مع شعارات حقوق الإنسان الّتي ترفعها دول الاتّحاد وتدعو إليها.. ولكن مع الأسف، فإنَّ الاتحاد يتنصَّل من كلِّ هذه الشِّعارات عندما تمسُّ العدوّ الصّهيوني، الّذي يظلّ في الحسابات الغربيَّة مولوداً من رحم هذه الإدارات الاستكبارية.
إنَّ على الفلسطينيّين أن يدركوا حجم اللّعبة الدَّوليَّة التي تسعى إلى تغطية أيِّ قرارٍ تتَّخذه حكومة العدوّ حيالهم، وأن يعرفوا أنَّ العدوَّ لا يريد رؤية دولةٍ فلسطينيَّةٍ حتَّى وإن كانت منـزوعة السِّلاح، كما يطرح نتنياهو، لأنَّه لا يريد أن يتحدَّث العالم عن شعب فلسطينيّ أُبعد عن أرضه.
إنَّنا ندعو الشَّعب الفلسطيني إلى الثَّبات في هذه المرحلة، وأن لا يستكين لكلِّ الوعود الكاذبة الّتي لا هدف لها سوى تقطيع الوقت لممارسة المزيد من الاستيطان، وعدم تقديم أيَّة تنازلات.. وعلى الرَّغم من كلّ المعاناة التي يعانيها هذا الشّعب من خلال الحصار المستمرّ، ومن خلال الضّغوط التي يتعرّض لها، والقتل والاعتقالات والتَّهجير، فإنَّ عليه أن يصبر في هذه المرحلة، وأن يعي أن المستقبل له ولكلّ الشّعوب المستضعفة، فيما العدوّ يعاني من مأزق الخوف على حاضره والمستقبل، في ظلِّ تنامي روح المقاومة والحراك الّذي يحصل في العالم العربي والإسلامي.
ولا بدَّ هنا من التَّأكيد على هذا الشَّعب أن يحمي وحدته الداخليّة، وأن لا يسمح لأيِّ خلاف أن يسيء إلى هذه الوحدة، وأن يبقي خياره خيار المقاومة والتحرير، فهو الخيار الوحيد الذي يفهمه العدو ويحقق النتائج.. كما ندعو الشعوب العربية والإسلامية أن لا تدع الشعب الفلسطيني يقف وحده.. بل أن تقف معه بكل قوة وصلابة وتحد..
ونحن عندما نتطلَّع إلى ما يجري في البلدان العربيَّة من دماء تسفك في أكثر من ساحة، وخصوصاً في السَّاحة اليمنيَّة الّتي يراد لها أن تغرق في فتنةٍ داخليَّةٍ لا تبقي ولا تذر، وكذلك في سوريا، التي يختلط فيها الجانب العسكريّ والأمنيّ بالمطالب الشّعبيَّة المحقّة والإصلاحات التي يعلنها النِّظام، وصولاً إلى البحرين الّذي يعاني من عدم مبادرة السلطة فيه لقيادة حوار جدي وموضوعي في ظل حراك شعبي مستمر وضاغط يؤكد على حريته.. وتحقيق مطالبه المحقة...
إنّنا نرى أنّ هذه الأوضاع بتراكماتها المستمرَّة، وبتطوّراتها وتفاعلاتها، هي بمثابة الدَّعوة غير المباشرة لكل الذين يسعون للاستيلاء على قرار المنطقة وثرواتها ونفطها والإمساك بها، كي يعبثوا أكثر في السَّاحة العربيَّة والإسلاميَّة الدَّاخليَّة.. ولذلك، فإنَّ المطلوب من الشّعوب العربيَّة، هو الوعي لعدم الوقوع في الفتنة والفوضى، وكفّ يد الدّول الغربيّة التي تدخل بشكلٍ سافر على خطّ الشّعوب.
ونصل إلى لبنان الّذي أطلَّ على العالم بترأسه لجلسة مجلس الأمن، والّذي نريد لحضوره أن يكون من موقع القويِّ المحتضن لقضايا الحريَّة والعدالة، وخصوصاً القضيَّة الفلسطينيَّة، والرَّافض لكلِّ استكبار واحتلال، وخصوصاً الاحتلال الصّهيونيّ، وهو الّذي عانى من هذا الكيان ولا يزال يعاني من كلّ السياسات الّتي أرادت للبنان أن يكون ساحةً لإثارة التّناقضات الطائفيَّة والسياسيَّة لحساب مصالحه على مستوى المنطقة..
إنّنا نريد للبنان أن يقف بكلّ عنفوان القوّة فيه، وأن يستكمل تجربته الرّائدة، الّتي أكّدت قدرة البلد الصَّغير على مواجهة أعتى قوَّة في هذه المنطقة، وتحرير أراضيه من خلال تلاحم مقاومته وجيشه وشعبه، وسعيه لمواجهة كلّ السياسات الاستكباريّة التي تريد لهذا البلد أن يبقى مشرّعاً على رياحها.. ولكن هذا لا يمكن أن نحافظ عليه إلا بمزيدٍ من تعميق الوحدة الدّاخليّة فيه، الوحدة الإسلاميَّة والوحدة الوطنيَّة.. ومن هنا، فإنّنا نقف مع كلّ الدّعوات التي انطلقت لتأكيد التَّعايش والشّراكة الإسلاميَّة المسيحيّة كخيار أساس وثابت، ونستبشر بآفاقها حين تشمل الوطن كله، وعندما تمتد إلى كل عناصر البنية اللبنانية بما فيها من مذاهب وجهات وتيارات، وذلك بما يُحصن أي توجه وحدوّي على المستويات الدينية والوطنية..
إنّنا نرى هذه الدّعوة ضروريَّة، وهي حاجة ملحّة تساهم في تعزيز قوّة هذا البلد وحضوره الفاعل، وهي السّبيل لحماية المسلمين والمسيحيّين من كلّ المؤامرات التي تريد أن تعبث بالجميع وتسيء إلى أمنهم.. فبالوحدة نستطيع أن نحل كل المشاكل الدّاخليَّة التي تتّصل بشؤون ناسه وأهله، كما في مسألة الكهرباء وغيرها.. وبالوحدة نستطيع أن نواجه التحديات التي تأتينا من الكيان الصهيوني أو مما يجري في العالم من حولنا.
وفي هذا الإطار، فإننا ندعو الدولة للعمل بكل جهدها لحلّ مشاكل الطبقات الفقيرة والمحرومة، وتلبية القدر الأقصى من الخدمات الاجتماعيّة والصحيّة وغيرها، والاستجابة لمطالب العمّال والمدرّسين والفقراء وذوي الدّخل المحدود، وخصوصاً مع انطلاق العام الدّراسيّ وأزماته المتلاحقة.
وفي هذا المجال، لا بدّ من أن نلفت إلى ارتفاع منسوب أعمال العنف الاجتماعيّ والتي تتمثل بأكثر من جريمة حصلت، ولا سيما الجريمة المروّعة التي حدثت في منطقة البسطة والتي ذهب ضحيتها عائلة عزيزة ما يستدعي استنفاراً من قبل كل العاملين في الشأن التربوي والاجتماعي.. والنفسي والديني.. لدراسة الأسباب التي تؤدي إلى تفاقم مثل هذه الحوادث ومعالجتها وضمان عدم تكرّرها، كي لا تودي بالأمن الاجتماعي الذي نؤكد على الحفاظ عليه..
إننا بحاجة في هذه المرحلة إلى تعزيز حضور الله في داخل نفوسنا.. هذا الحضور الذي يجعلنا لا نيأس رغم كل الضغوط التي نواجهها في الحياة.. ولا نطلق العنان لانفعالاتنا وتوتراتنا.. ولا نتحرك إلا حيث يريدنا الله أن نتحرك.. قد لا نستطيع في هذه المرحلة الصعبة في كل ما يجري فيها، أن نخفف الكثير من هذه الضغوط، لكننا بهذا الحضور لله نستطيع أن نمنع السلاح أن يتحرك في غير موقعه الصحيح.. وهذا ما نحتاجه.. كي يبقى هذا البلد قويّاً بوحدته، قويّاً بإنسانه، قويّاً بقيمه، قويّاً بتماسكه، قادراً على مواجهة كلّ التحدّيات الّتي لن تواجه بجسم مترهّل ضعيف.