ارتكزت المواقف المفصلية في الخطاب الأخير للسيد حسن نصرالله على حقيقة أن المقاومة «ليست مردوعة، ولكنها حكيمة»
علي حيدر
ارتكزت المواقف المفصلية في الخطاب الأخير للسيد حسن نصرالله على حقيقة أن المقاومة «ليست مردوعة، ولكنها حكيمة». هذا التوصيف ـ الموقف ينطوي على أهمية استراتيجية من منظور إسرائيلي، سواء لكون الردع يشكل أحد المداميك الاساسية للنظرية الامنية الاسرائيلية، أو لما قد يترتب على ذلك من تقديرات ومسارات وخطوات عملانية تتصل بالامن القومي الاسرائيلي.
يكاد مفهوم الردع يكون أحد أكثر المصطلحات رواجاَ في الساحة الاسرائيلية، وتحديداً على ألسنة القادة العسكريين والباحثين. ويعود ذلك، بحسب أحد أهمّ المنظرين الاستراتيجيين يتسحاق بن يسرائيل، الى أن «مفهوم الردع في إسرائيل يختلف تماماً عن مفهوم الردع الذي تستخدمه شعوب العالم في الادبيات المهنية».
لذلك، فإن هدف إسرائيل في الحروب التي تخوضها ليس «الانتصار فحسب، بل إعادة الردع، وهذا هدف خاص جداً». وبرر بن يسرائيل ذلك بأن النظرية الأمنية الاسرائيلية كلها ترتكز على فكرة أن كل ما نسميه حروباً هو في الواقع جولات في حرب واحدة طويلة.
ورغم اقتناع غالبية لدى العدو بأن حزب الله مردوع مقابل مردوعية إسرائيل، صدرت في المقابل تقديرات عدة مغايرة حذرت من مفاعيل الوقوع في هذا التقدير الخاطئ، وتستند الى أن هناك تفسيرات أخرى لامتناع الحزب عن استهداف إسرائيل في المراحل السابقة، غير قوة الردع الاسرائيلية.
ومن هؤلاء، الباحث في التاريخ العسكري والنظريات القتالية ياغيل هنكين، الذي تناول هذه المسألة في بحث طويل نشره «معهد أبحاث الامن القومي» (كانون الاول 2014)، وأكد خلالها أن امتناع حزب الله عن المبادرة خلال المرحلة الماضية ليس ناتجاً من قوة الردع الاسرائيلية، بل لانشغاله بأولويات أخرى فرضتها التطورات في لبنان والمنطقة. وأوضح هنكين أن الردع هو «تهديد صريح أو عبر التلميح، باستخدام القوة بهدف منع الحاجة الى استخدامها و/ أو إنتاج وضع يكون فيه من الواضح للعدو أن فائدة استخدام القوة ستكون أقل من الضرر الذي سيلحق به». وأضاف: «في إسرائيل يُستعمل المصطلح لدى استخدام القوة بشكل محدود (على سبيل المثال عمليات انتقامية) لدفع العدو الى الامتناع عن استخدام قوة مضادة ضدنا». ولفت الى أن الردع مرتبط دائماً بسياق واعتبارات الكلفة والجدوى. وتتوقف فاعلية الردع في اللحظة التي يعتقد فيها العدو بأن الجدوى تتغلب على الاخطار. ولفت الكاتب الى أن هناك نظريات كثيرة حول موضوع الردع المتصل بالدول فقط، لكن السؤال الاساسي هو إلى أي مدى يعتبر هذا الردع ذا صلة تجاه جهات مثل حزب الله؟ وتوقف عند أحد مكامن قوة الحزب بالقول إن «الغزو البري هو تقريباً تهديد دائم بالنسبة إلى الدول، لكن من ناحية حزب الله، قد يكون هذا الغزو فرصة له لجذب العدو الى مواجهة بشروط يتمتع فيها بتفوق كمنظمة وليس كدولة». مع ذلك، يضيف هنكين أن صعوبة البحث عمّا يردع خصماً ليس دولة، «لا يعني أن أي أمر لا يردعه، لكن من المهم عدم الافتراض مسبقاً أن الوسائل الناجعة لردع الدول يصح استخدامها ضد جهات ليست دولاً».
وأسهب الباحث في تناول محطات استند إليها الاسرائيليون للدلالة على أن حزب الله مردوع، وأثبت خطأها من خلال تفسيرات أخرى. وأوضح أن كثيرين في إسرائيل اعتبروا الهدوء الذي ساد الحدود مع لبنان نتيجة لقوة الردع الاسرائيلية. لكنه دحض هذه المقولة بالتأكيد أن حزب الله «كفّ تقريباً عن العمل ضد إسرائيل بعد حرب لبنان الثانية، لأنه لم يكن هناك حاجة إلى ذلك، وبسبب انشغاله بمواضيع أخرى». وعرض سلسلة طويلة من المحطات التي كانت محور نشاط حزب الله، من حاجته الى مراكمة قدراته العسكرية وتطويرها، الى بناء ما تم تدميره خلال الحرب، الى المفاوضات حول تبادل الاسرى التي استمرت حتى عام 2008... الى العديد من المحطات الداخلية اللبنانية. وتوقف في شكل بارز أمام إنشاء المحكمة الدولية واستقالة الوزراء الشيعة من الحكومة اللبنانية وقرارات 5 أيار وأحداث 7 أيار التي تلتها، وصولاً الى تشكيل حكومة جديدة «يملك فيها حزب الله الفيتو»، بحسب هنكين. وقال إن أولمرت رأى عام 2008 أن هناك «ردعاً بارزاً لحزب الله على خلفية المواجهة التي خاضها (2006)، وأنه مشغول بترميم مكانته السياسية». لكن الواقع أن الاحداث التي واجهها في ربيع ذلك العام (أحداث أيار 2008) لا علاقة لها بكونه مردوعاً من قبل إسرائيل، بل هي «استغلال نجاح، وليست ترميماً لمكانته السياسية بل تعزيزها».
وخلص هنكين إلى ان التمعن في هذه المحطات يثبت أن الخوف من إسرائيل ليس هو الذي أثر في نشاطات حزب الله، بل ربما لم يكن عاملاً أساسياً. واقتبس عن أحد الخبراء الاسرائيليين قوله إن امتناع الحزب عن تسخين الجبهة ضد اسرائيل يعود الى أن «قوته الصاروخية تستهدف إنتاج ردع ضد إسرائيل لمنعها من مهاجمة البرنامج النووي الايراني». ورأى هنكين أن «عدم مهاجمة حزب الله لإسرائيل خلال هذه الفترة، يعتبر خطوة تكتيكية بهدف عدم إرباك عملية بناء قدراته العسكرية والصاروخية»، لافتاً الى ارتداع إسرائيل خلال الفترة الماضية عن «شنّ هجمات عسكرية علنية ضد الحزب، قبل بدء الاحداث في سوريا، تستهدف بناء قدراته الصاروخية، واكتفائها بالتوجه الى الامم المتحدة».
ومع إشارته الى أن حزب الله امتنع عن العمل بشكل مباشر وعلني ضد إسرائيل حتى عام 2013، أشار في المقابل الى إرسال الحزب طائرة من دون طيار للتحليق في العمق الاسرائيلي (تشرين الاول 2012). وفي الضربات المباشرة، لفت الى أن حزب الله نفذ في آب 2013 كميناً ضد قوة إسرائيلية تسللت الى الاراضي اللبنانية أدى الى جرح 4 جنود. كذلك عرض لاتهامات ضد حزب الله حول مسؤوليته عن تنفيذ أو محاولات تنفيذ عمليات في العديد من مناطق العالم، وصولاً الى تفجير بورغاس في بلغاريا عام 2012 ولفت إلى محاولات لتنفيذ عمليات ضخمة لم تنجح رداً على اغتيال عماد مغنية.
وخلص الباحث الاسرائيلي الى أن من المحتمل أن يكون ما يدافع عن إسرائيل في المرحلة الحالية، ليس فقط قوة الجيش الاسرائيلي، بل أيضاً المشاكل التي يواجهها حزب الله وأهدافه وانشغالاته الأخرى. وأكد أن حزب الله لن يسلِّم بإسرائيل ولن يعترف بوجودها، «وينبغي أن نفهم أن إسرائيل لا تشكل دائماً القضية المستعجلة بالنسبة إليه». وحذر من كون السؤال «هل حزب الله مردوع» ليس مسألة نظرية فقط، بل إن الخطط العملانية لإسرائيل، سواء ضده أو ضد أطراف أخرى، يمكن أن تفشل إذا ما ثبت عدم صحة هذه الفرضية. وفي موازاة ذلك، إذا كان امتناع حزب الله عن العمل ضد إسرائيل يعود الى أسباب أخرى لا سيطرة لها عليها، فمن المحتمل حينئذ أن يكون نشاطه الحربي أقرب مما يعتقد.
في نهاية بحثه، حذر هنكين من الاعتقاد المبالغ فيه بقوة ردع إسرائيل ضد الحزب لأنه يمكن أن يؤدي الى قلة المبالاة. لكن ما لم يخطر على باله أن يندفع الثنائي نتنياهو ـ يعلون، بعد أسابيع قليلة على نشر بحثه، واستناداً الى هذا الاعتقاد المبالغ به، الى توريط إسرائيل في مغامرة في القنيطرة، أدت الى ردّ مؤلم في مزارع شبعا، والى إعادة رسم معادلات الردع وفق صيغة جديدة أعلنها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله.
http://www.al-akhbar.com/node/225353
موقع المنار غير مسؤول عن النص وهو يعبّر عن وجهة نظر كاتبه