الانتصار الذي نحن امامه اليوم، والذي راكمته المقاومة طوال السنوات الماضية، يتمثل في القدرة على اختراق وعي الإسرائيلي واعادة هندسته وبنائه على قاعدة جديدة غير قاعدة «التفوق والتفرد» التي تشكلت في غفلة منا
أخذنا السيد حسن نصر الله في خطابه يوم الجمعة الماضي إلى المنطقة الاكثر أهمية وحساسية في الصراع مع إسرائيل، وهي «منطقة الوعي»، حين قال بأن «المهم هو ما أصاب إسرائيل بعد اعلان عملية الاغتيال في القنيطرة»، مشيراً بذلك الى حالة الاستنفار العالية في صفوف جيشها، ومعتبراً أن «أول الانجازات لدماء الشهداء هو انه من الاحد الى الأربعاء، إسرائيل واقفة على رجل ونص».
يبدو أن الأمين العام لحزب الله، تجاوز في فهمه لردة الفعل الإسرائيلية هذه اطار الحسابات المادية والتوازنات العسكرية، وأراد أن يضعها لنا ضمن مشهد أشمل وأعمق، يتمثل في حالة الوعي الجديد الذي بات يتشكل لدى الإسرائيلي عن نفسه اولاً وعن خصمه ثانياً. وهي جبهة صراع مهملة لم نولِها الاهتمام الكافي طوال العقود الماضية، في حين هو حاربنا بها ومن خلالها.
لفهم أهمية «جبهة الوعي» هذه والتي برزت اكثر من مرة في خطاب تكريم شهداء القنيطرة، علينا ان ندرك حقيقة قاسية تركها لنا تاريخ صراعنا مع إسرائيل، وهي أن وعي الإسرائيلي تشكّل مبكراً وسريعاً على قاعدة «التفوق والتفرد». قاعدة ارتسمت حدودها ما بين النكبة والنكسة، فحين كان الجندي الإسرائيلي يراكم انتصاراته المتتالية علينا، كان في الوقت نفسه يتراكم لديه شعور التفوق وتتعمق بداخله صورة البطل المنتصر وسط محيط من الهزائم.
وفي المقابل كانت تتراكم داخلنا نحن الانكسارات وفقدان الثقة بالنفس والندية. ومن هنا ولدت ثقافة جلد الذات وتضخيم الآخر. وحين شكّلت الثورة الفلسطينية آنذاك اهم محاولة عربية في القرن العشرين لوضع حد لهذه الانكسارات داخلنا، جاءت «هزيمة اوسلو» لتفتح لها الباب من جديد.
لا نبالغ ان قلنا بأنّ هذا التفوق داخل الإسرائيلي وعياً وشعوراً، وذاك الانكسار داخلنا، شكلا الانجاز الاهم له. وهي اهمية تعود لطبيعة وتركيبة الكيان الذي نحن في مواجهة معه. فإسرائيل ربما هي الحالة الوحيدة في التاريخ التي ولدت كجيش اولا ثم أصبحت دولة، ما يعني أن أساسها وجوهرها قائمان على هذا الجيش، وبالتالي لا قوة لديها يمكن أن تحفظ بقاءها وتضمن استمراريتها سوى القدرة العسكرية. على عكس الدول التي تولد من رحم مجتمع له تاريخ وثقافة ووطن وهوية وانتماء. هذه الدول لا تنتهي بهزيمة جيوشها، بينما الدولة التي تفتقر أساسيات الوجود هذه، فلا بقاء لها ولا حصن يحميها سوى الجندي. وهذا الجندي لا قيمة له مهما راكم من أسلحة وخبرات عسكرية ان كان مهزوماً من داخله.
لذلك فإن الانتصار الذي نحن امامه اليوم، والذي راكمته المقاومة طوال السنوات الماضية، يتمثل في القدرة على اختراق وعي الإسرائيلي واعادة هندسته وبنائه على قاعدة جديدة غير قاعدة «التفوق والتفرد» التي تشكلت في غفلة منا ومن التاريخ. ويمكننا الاجتهاد والتأريخ لتجلي اعادة الهندسة هذه مع حرب 2006، التي مع كل اسف لم تأخذ حقها الكافي في الدراسة والتحليل واستخلاص النتائج والمدلولات، بل العكس بذلت وما زلت تبذل محاولات جبارة للتقليل من أهميتها. ولكنها وجدت ارتدادها الطبيعي والايجابي داخل فلسطين نفسها.
لم أجد اكثر سطحية من ذلك الذي تناول تلك الحرب بمنطق الحسابات العسكرية المجردة، مع انه حتى هذا المنطق، من انتصر فيه هو حزب الله، ولكن النتيجة الاهم برأينا والتي تتجاوز بكثير ما رسم انذاك من قواعد اشتباك، والتي اعتبرها السيد نصر الله انها بعد عملية القنيطرة لم تعد قائمة، هو أن حزب الله استطاع كي وعي الإسرائيلي زارعاً داخله «مبدأ الندية»، وهو المبدأ الذي ترجم عملياً في وقوف إسرائيل «على رجل ونص». فهي اليوم تدرك انها أمام ند وتخشاه.
وذات السذاجة والسطحية التي فهمت بها حرب 2006 على لبنان، انسحبت على فهم وتحليل الحرب الأخيرة على قطاع غزة، فهنالك أيضاً تم تحقيق اختراق جديد لوعي الإسرائيلي ولصورته المتضخمة عن نفسه، حيث لم نلتفت الى الاثر الذي يمكن ان تتركه ارادة مقاتل فلسطيني استطاع رغم الحصار بناء قدرات قتالية جديدة والخروج لعدوه من باطن الأرض. وهو اثر وجد صداه الأكبر في الضفة الغربية حيث تحاول ثقافة «اوسلو» يومياً تكريس هزيمة الوعي. وقد أشرنا حينها في مقال هنا بعنوان «في السؤال عن المكسب السياسي للمقاومة... وعباس»، كيف ان الاطراف التي ترفض اعادة صياغة وعي الفلسطيني والعربي عموماً على قاعدة الندية تنبهت الى ذلك وعملت سريعاً على التقليل من ذلك الاثر.
الهزائم ليست دائماً مدمرة اذا بقيت ضمن النطاق العسكري المجرد، والانتصارات أيضاً لا تتحقق فقط بالتفوق العسكري. هذا ما يدركه الإسرائيلي واصدقاؤه جيداً، وهذا ما يدفعهم لخوض حرب شرسة ضد تحقيق اي اختراق للمقاومة على «جبهة الوعي». وهو ما يترجم في سيل المقالات والتحليلات والقنوات الفضائية التي تحاول ليل نهار الانتقاص مما يحدث على حدود فلسطين وداخلها، ولكن يبدو أن الوقت بات متأخراً ووعي الإسرائيلي قد هزم، وفي المقابل المقاومة باتت ثقافة تزرع الايمان بحاملها انه قادر على هزيمة عدوه. بالتالي أكثر ما هو مطلوب اليوم هو توسيع قاعدة هذه الثقافة وتحصينها من كل ما يتهددها.