لم يعتبر الإعلام الأميركي سقطة أحد أبنائه الكبار مناسبة ليعاود طرح الأسئلة عن جدوى حرب العراق وكل ما تلاها من أخطاء، وصولاً إلى وقوع أجزاء من هذا البلد في براثن "داعش. وكيف له ذلك وغزو العراق بدأ بكذبة
لم يعد مشهد حرق معاذ الكساسبة حياً النبأ الأول في الإعلام الأميركي ولا آليات مواجهة تنظيم "الدولة الإسلامية"، "داعش" سابقاً، ولا حتى أي شأن داخلي في الولايات المتحدة. إذ عاد ذاك الإعلام إلى ذاته من دون أن يراجع كيف يبني قصصه التي تؤثر في الرأي العام وتصنعه.
ليست القضية الآن سرقة أفكار كما فعل مرة فريد زكريا، بل تلفيق لحدث لم يقع. المكان، العراق. الزمان، 2003.
الشخص هو بريان ويليامس من شبكة "أن بي سي" الأميركية للتلفزيون، وهو حالياً مذيع البرنامج الإخباري الليلي للمحطة الذي يحظى بنسبة مشاهدة لا مثيل لها، الأمر الذي جعله يتصدر الوجوه الإعلامية في البلاد، خصوصاً أنه يتمتع بسرعة بديهة حوَلته ضيفاً متكرر الظهور في برامج ساعات الذروة الترفيهية المسائية مثل "ساتورداي نايت لايف" و"دايلي شو" و"30 روك".
أمس الأربعاء اعتذر عن زعمه أنه كان في طائرة هليكوبتر أُسقطت عشية غزو العراق عام 2003. قال على الهواء :"ارتكبت خطأ في رواية أحداث وقعت قبل 12 سنة".
والجمعة أقر ّأنه "لم أخطئ بإرادتي. لست أدري ماذا حدث لعقلي وجعلني أتحدث عن طائرة بدل الأخرى"، محاولاً تبرير روايته المتخبطة في تفاصيل متضاربة بالقول إنه كان في طائرة ترافق تلك المستهدفة، وليس في الطائرة نفسها كما زعم لسنين.
ببساطة، كان ويليامس يكذب منذ عام 2003. وهو كان حتى اللحظة الأخيرة يحاول مواصلة استغلال تلك القصة الملفقة، إذ لاحقته الكاميرات وهو يأخذ السرجنت تيم تيرباك لحضور مبارة فريق "الرينجيرز" لشكره على إنقاذه حياته في العراق.
استمتع تيرباك بتصفيق الجمهور، على ما روت "النيويورك تايمس"، وحيا الحضور ويليامس باعتباره "بطلاً أميركياً". وانتشرت تلك الحادثة على مواقع التواصل الاجتماعي وبثتها "أن بي سي". تحدث ويليامس في برنامجه الليلي عن "لحظة رهيبة قبل سنين، خلال غزو العراق حين أُجبرت طائرة هليكوبتر كنا فيها على الهبوط اضطرارياً بعد إصابتها بقذيفة آر بي جي. أُنقذ فريقنا في "أن بي سي" ونجونا بفضل فرقة في جيش المشاة الأميركي الثالث".
وفي اليوم التالي، وبينما كان "الفايسبوك" يحفل بالمديح للرجلين، رد الطيار الأميركي لانس رينولدز على صفحة ويليامس على الموقع، كاتباً باستهزاء :"آسف يا رجل، لا أذكر أنك كنت في طائرتي. لكنني أذكر أنك قدمت لمحادثتي بعد ساعة من هبوطنا لتسألني عما حدث". ووصفته صحيفة "ستارز أند ستريبز" العسكرية التي وجدت مادة دسمة للتنقيب فيها، بأنه الطيار المهندس لتلك الرحلة في طائرة "الشينوك"، ونقلت عنه اتهامه ويليامس بالتطفل على تجربة قاسية لم يكن جزءاً منها.
تسارعت الأحداث. توالى التشكيك في رواية لم يدحضها أحد منذ عام 2003، وتأكيد عسكريين أن ويليامس لم يكن في الطائرة المستهدفة، وأنه وصل إلى المكان بعد ساعة. كما نفى السرجنت جوزيف ميلر الذي قاد الطائرة التي أقلت ويليامس التعرض لأي إطلاق نار.ورأت "فوكس نيوز"، وهي من منافسي "أن بي سي"، أنه "من الصعب القبول أن يكون صحافياً من الصف الأول اختلق قصة صنعت أسطورة شجاعته في منطقة نزاع".
والواقع أن ويليامس دأب على ترداد تلك المغامرة المزعومة كلما سنحت له الفرصة، وإضافة المزيد من التفاصيل لتوسيع هالته كإعلامي بطل. فقد قال في مقابلة مع ديفيد ليترمان على "سي بي أس" عام 2013 :"كنا في بضع طائرات. ما لم نكن نعرفه أننا كنا شمال منطقة الغزو. كنا سنلقي أجزاء من جسور متحركة في الفرات حتى تستطيع فرقة المشاة عبور النهر. أصيبت طائرتا هليكوبتر من أربع، بما فيهما التي كنت فيها، لقد استهدفتنا نيران أرضية". وزعم أنه نُقل بعد عملية الإنقاذ إلى غرب بغداد وسط عاصفة رملية.
ولا يبدو اعتذار ويليامس أكثر من محاولة لإنقاذ ماء الوجه، فهو لم يقر بسقطة مهنية. وبرر استعراضه الإعلامي مع تيرباك بأنه محاولة لشكر عسكري قديم خدم 24 سنة في الجيش، ومن خلاله "الرجال والنساء الشجعان في كل مكان، ولهم كل احترامي". وأضاف أنه لم يحاول سرقة بطولة أحد، "على العكس، كنت وأبقى صحافياً مدنياً يغطي قصص من يقومون بواجب حمايتنا".
وقد كشفت "الفورين بوليسي" أن تيرباك تولى فعلاً تأمين الحماية لويليامس، لكن بعد هبوط طائرته بُعيد أكثر من ساعة من الحادث، وقد بقي الرجلان على صلة منذ ذلك الحين.وحتى الآن تلتزم "أن بي سي" التي بثت رواية مراسلها للمرة الأولى في 26 آذار 2003 تحت عنوان "طائرة بريان ويليامس تتعرض للنيران في العراق"، الصمت.
وانتشرت على "تويتر" صور مركبة تظهر الرجل وسط أحداث تاريخية، مثل الهبوط على القمر أو إلقاء مارتن لوثر كينغ خطابه التاريخي عن الحلم بالحرية، كل ذلك من باب التهكم، وليس لانتقاد كذبة بُنيت عليها مسيرة إعلامية قفزت إلى صدارة المشهد الأميركي. بطولة ملفقة، هذا كل ما رأى منتقدو ويليامس في الأمر، كأنها لحظة هوليوودية عابرة في فيلم. لم تجد المطبوعات الرصينة التي ناقشت القضية أكثر من ذلك، حتى أن "الفورين بوليسي"، وفي ما بدا تبرئة للإعلامي الشهير، ذكَرت بأنه "ليس الشخصية العامة الوحيدة التي تختلق أخباراً عن مغامرات في الحروب".
لم يعتبر الإعلام الأميركي سقطة أحد أبنائه الكبار مناسبة ليعاود طرح الأسئلة عن جدوى حرب العراق وكل ما تلاها من أخطاء، وصولاً إلى وقوع أجزاء من هذا البلد في براثن "داعش. وكيف له ذلك وغزو العراق بدأ بكذبة. تذكرون "الأدلة" التي عرضها وزير الخارجية الأميركي الأسبق كولن باول؟...