استفادت المؤسسة الدينية من مجمل مؤسسات السلطة في نشر أفكارها والدعوة إليها، واستطاعت أن تستفيد من القوة النفطية وفائضها المالي في دعم تلك النشاطات الدعوية، ليس فقط داخل المملكة، وإنّما في مختلف دول العالم العربي والإسلام
يكثر البحث في الأسباب التي أدّت إلى إنتاج ظاهرة التطرف والتكفير الحالية، وفي معرض هذا البحث، قد يغفل الكثيرون عن سبب أساسي كان له دوراً مهماً في بروز هذه الظاهرة ونموها، وهو تحالف الدين والسياسة في المملكة العربية السعودية... الدين متمثلاً بالإيديولوجيا السلفية الوهابية، والسياسة متمثلة بالمؤسسة السياسية وقوامها العائلة الحاكمة.
لقد كان لهذا التحالف مبرراته التاريخية التي أدّت إلى استيلاده، حيث يحتاج المشروع السياسي إلى مشروعية دينية، كما يحتاج إلى كلّ ما من شأنه شدّ العصب الديني واستثماره؛ وفي المقابل يحتاج المشروع الديني إلى أدوات السلطة، التي تفتح أمامه أبواب الدعوة ونشر أفكاره، كما تمكّنه من فرض تلك الأفكار وتطبيقها في مستوى أو آخر.
هذا ما حصل في التاريخ الحديث للمملكة السعودية، حيث استطاعت المؤسسة السياسية أن تكسب أكثر من فائدة من ذلك التحالف؛ لكن لا شكّ، أنّ الفوائد التي جنتها المؤسسة الدينية هي أكبر بكثير من تلك التي جنتها المؤسسة السياسية.
لقد استفادت المؤسسة الدينية من مجمل مؤسسات السلطة في نشر أفكارها والدعوة إليها، واستطاعت أن تستفيد من القوة النفطية وفائضها المالي في دعم تلك النشاطات الدعوية، ليس فقط داخل المملكة، وإنّما في مختلف دول العالم العربي والإسلامي بل والغربي وغيره. كما استطاعت أن تفرض العديد من أفكارها وقوانينها داخل المملكة، في ما يرتبط بأكثر من شأن ديني واجتماعي وغيره.
تُعَدّ الإيديولوجيا السلفية الوهابية عاملاً أساسيّاً في إعادة إنتاج ظاهرة التكفير المعاصرة
كما لن يكون مستبعداً، أن جدل الدين والسياسة قد ترك أثره أيضاً في العقل السياسي الحاكم، بمعنى أن تحليل مفاهيم وديناميات ذلك العقل، قد تفضي إلى الاستنتاج، بأن أبعاداً دينية إيديولوجية قد تركت بصماتها، واستطاعت أن تجد لها مكاناً في محرّكات ذلك العقل، نتيجة لجدلية الدين والسياسة، وهو ما يحتاج إلى بحث مستأنف.
لقد فُتحت الأبواب للمؤسّسة الدينية ومشروعها، في العديد من مجالات التربية والتعليم والإعلام والثقافة والاجتماع... للدعوة إلى أفكارها وإيديولوجيتها، حيث أخذت لنفسها مكاناً في مناهج التعليم في الجامعات والمدارس، وفي وسائل الإعلام، والقنوات الفضائية، ومختلف المنشورات، وفي الخطاب الديني في المساجد وغيرها، وفي العديد من المؤسّسات الأخرى. بل إن دور مؤسّسات السلطة من جهة، والفائض المالي من جهة أخرى، أسهما في فتح الكثير من الدول - بما فيها الغربية - لمجتمعاتها ومدنها لتلك المؤسسة وإيديولوجيتها، من خلال شبكة الدعاة والمساجد، وغيرها من الأنشطة التي تمولها.
وهو ما أفضى إلى نشر هذه الأفكار الإيديولوجية في كثير من المجتمعات الإسلامية والغربية وغيرها، معتمدة على الرمزية الدينية من جهة - مكة والمدينة - وعلى السيولة المالية من جهة أخرى، ما أدّى إلى استقطاب الكثير من الأتباع لتلك السلفية الوهابية في كثير من دول العالم. ورغم أن العديد من تلك الأفكار هي أفكار تكفيرية ومتطرفة وإلغائية...
لكن حصل تساهل - إن لم يكن أبعد من ذلك - تجاه تلك الأفكار ونشرها، سواء على المستوى الداخلي، نتيجة لذلك التحالف بين المؤسسة الدينية والمؤسسة السياسية، أو على المستوى الخارجي، من كثير من الدول العربية والإسلامية والغربية، نتيجة للمصالح الاقتصادية، ودور العامل المالي، في إسكات أية محاولة لتلمس أخطار حقيقية، أو تهديدات متوقّعة، يمكن أن تحصل في أية ظروف لاحقة. ماذا كانت نتيجة ذلك التساهل والتواطؤ؟ بيئة خصبة لإنتاج التكفيريين والمتشددين في تلك المجتمعات التي استطاعت أن تصل إليها تلك الأفكار الإيديولوجية، سواء داخل المملكة أم خارجها، وأعداد كبيرة من الإرهابيين، الذين يمتلكون الدافع الإيديولوجي لممارسة مجمل الأعمال الإرهابية والإجرامية بحق المسلمين وغيرهم، وارتكاب المجازر، وتهديد الأمن والاستقرار لكثير من الدول والمجتمعات، بما فيها تلك التي نشأوا فيها وترعرعوا داخلها.
إنّه ليس من قبيل الصدفة، أن نجد أنّ كثيراً من الإرهابيين التكفيريين هم من مواطني هذه الدولة أو تلك، أو أنّهم ينتمون إلى مدرسة إيديولوجية بعينها (السلفية الوهابية)، أو أنهم يتوزّعون على جغرافيا إيديولوجية معينة أو... نعم، قد يكون لعوامل الاستثمار الأمني والسياسي دور ما، لكن ممّا لا شكّ فيه أن البعد الإيديولوجي كان له بالغ الأثر في ذلك.
كما لا ريب في أنّ التحالف بين المؤسسة السياسية والإيديولوجيا الوهابية، قد مكّن هذه الإيديولوجيا من لعب دورٍ مؤثر في استقطاب الكثير من الأفراد، وإعداد بيئة أكثر من خصبة لتكوين العديد من الجماعات المتشدّدة والتكفيرية، والتي تملك كامل الاستعداد والدافع الإيديولوجي، لأن تقوم بأكثر من دور إرهابي في المجتمعات والدول التي توجد فيها.
إنّه لم يعد عصياً على أي ناظر معرفة الأخطار التي تتركها هذه الأفكار الإيديولوجية على الأمن، والمجتمع، والاقتصاد... وقبل أي شيء على حياة الناس ووجودهم. ولم يعد خافياً أن تلك الأخطار لن تبقى في حدود المجتمعات التي تختلف دينياً ومذهبياً مع بلد المنشأ، أو ضمن مجالات الاستثمار السياسي والأمني، بل من الممكن أن ترتدّ - وقد فعلت - على تلك الدول والمجتمعات التي استنبتتها ورَعتها، أو تلك التي تواطأت، أو تساهلت، أو غضّت الطرف عنها.
السؤال المطروح: هل توجد إرادة جدّية وصادقة من قبل مجمل تلك الأطراف الدخيلة في وصول الأمور إلى ما وصلت إليه، لعلاج جدّي وجذري للأسباب الحقيقية، التي أدّت إلى ما آلت إليه الأمور في المنطقة والعالم، من دون أي تواطؤ أو تساهل، أو غضّ للنظر بفعل الإغراءات المالية، ودون أي تأثير لعقلية الاستثمار الأمني والسياسي والمالي وغيره؟
وعليه، هل من الصحيح أن يبقى هذا التحالف قائماً بين المؤسسة الدينية والمؤسسة السياسية في المملكة العربية السعودية، بما يوفره ذلك التحالف من فرصٍ وإمكانيات لتلك الأفكار المتشددة والتكفيرية لتفعل فعلها؟ ولذلك الخطاب لممارسة أكثر من استقطاب وأدلجة وتحريض؟
قد لا يكون أمراً سهلاً فك هذا التحالف المزمن، ولكن أمام مجمل الظروف السياسية والاجتماعية والأمنية... والأوضاع القائمة في المنطقة، وحيث أن ذاك الخطر قد أصبح يطرق أبواب المملكة نفسها؛ لم يعد هناك من خيار لاستمرار الأمور على ما هي عليه، ولم يعد ينفع التعامي من قبل الكثيرين، ولم يعد يصحّ الرضوخ أمام الإغراءات المالية والاقتصادية، ولن يبقى من الحكمة التغاشم أمام هول الأخطار ومستوى التهديدات، بعد أن أصبحت ظاهرة للعيان.
إنّه لم تعد تكفي العلاجات الموضعية، أو السطحية، أو الفولوكلورية؛ بل يحتاج الأمر إلى علاج شامل وجذري وبنيوي، يرتكز إلى رؤية إصلاحية لمجمل مناشئ التكفير والتطرف، يبدأ من إصلاح كل ذلك البعد التكفيري والمتطرف في المدرسة الوهابية وإيديولوجيتها، ويوقف كل ذلك الضخ الإعلامي والتحريض المذهبي الذي يحض على الكراهية والعصبية والعنصرية، ويعمل على ضبط ذلك الجهاز الديني، سواءً في المساجد أو مختلف منابر الدعوة والإرشاد، ويجهد إلى تطهير المناهج الدراسية في الجامعات والمدارس من جميع المفاهيم والأفكار، التي تدعو إلى التطرّف والتشدّد، يعمل على تعطيل أية قدرة على استثمار التراث الديني ذي النزعة التكفيرية والإلغائية، وتنقيته من جميع الشوائب التي أُدخلت فيه، بل والذهاب إلى إدخال النزعة الإصلاحية إلى المؤسسة الدينية نفسها، وصولاً إلى مجمل مؤسسات الدولة والمجتمع.
لكن وقبل أي شيء، ينبغي الالتفات إلى أن أية محاولة من محاولات الاستثمار السياسي وغيره، من خلال توظيف الجماعات التكفيرية ودعمها، تحمل من الأخطار ما لا يمكن ضبطه أو توقّفه.
قد يحتاج الأمر إلى إجراء أكثر من مراجعة نقدية شاملة لمجمل تلك النتائج والتداعيات، التي ترتّبت على ذلك التحالف القائم بين كل من المؤسسة الدينية والمؤسسة السياسية في المملكة العربية السعودية، لكن مما لا شكّ في أمران:
ــ الأول: أن الإيديولوجيا السلفية الوهابية تعتبر عاملاً أساسياً في إعادة إنتاج ظاهرة التكفير والتطرف المعاصرة، وأن استمرار تبنيها من قبل المؤسسة السياسية في المملكة، هو عامل دعم لها بشكل أو بآخر.
ــ ثانياً: أن الإصلاح الشامل في المملكة العربية السعودية، وتحديداً في ما يرتبط بالمؤسسة الدينية ومرجعيتها الإيديولوجية، وتصديرها لمقولات التطرّف والإرهاب والتكفير؛ لم يعد ترفاً فكرياً، ولم يعد شأناً داخلياً بحتاً، بل يمكن القول إن التنمية الشاملة، وتعزيز مختلف الحريات، وقيم المشاركة السياسية وغير السياسية، وممارسة التعددية وحرية النقد، والتوزيع العادل للثروات... كل ذلك، سوف يسهم في إعادة إنتاج بيئة اجتماعية، وثقافية، وسياسية، ودينية، عصية على التطرف، ومنيعة على التكفير، وغير منتجة للتشدد والإرهاب.
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه