أنا اليوم، وبعد أربعين عاماً على صدور «قصائد مهرّبة إلى حبيبتي آسيا»، ما زلت أدخل إلى قصائده، مثلما يدخل طفل إلى غابة مكتظّة بالأشجار والطيور والحيوانات الوحشية، مزوداً بالبراءة الأولى
في حمّى الإصدارات الجديدة التي تحتل واجهات المكتبات، وتحظى بحفاوة فورية، وتُكتب عنها مراجعات نقدية سريعة، نفتح هذه الصفحة للاحتفاء بالكتب الأولى لكتّاب تكرّست تجاربهم وأسماؤهم، وباتت تفصلهم مسافة زمنية وإبداعية عن بواكيرهم التي كانت بمثابة بيان شخصي أول في الكتابة.
ديواني الأول هو «قصائد مهرّبة إلى حبيبتي آسيا» صدر في طبعته الأولى عن «دار الأداب» في بيروت أواخر عام 1974. صدر لي بعده حتى كتابة هذه السطور، ستة عشر ديواناً، آخرها «النازلون على الريح» عن الدار نفسها.
صدرت من «قصائد مهرّبة» ست طبعات مختلفة، نفدت تقريباً بكاملها. مرت فترة من الزمن لم يكن بحوزتي فيها من الطبعة الأولى أية نسخة، ولم أجدها في المكتبات، فتحينتُ فرصة زيارتي لأحد الأصدقاء، كانت في حوزته نسخة مهداة مني إليه مع إهداء لطيف وتوقيع، فأخفيتها تحت ثيابي، وهي الآن في حوزتي بغلافها الوحشي الذي يناسب محتواها، وكان قد رسمه الصديق الفنان حسن جوني، وأوراقها التي أحالها الزمن لما يشبه الذهب المحروق.
بعد فترة من الزمن، وكانت قد صدرت من الديوان، طبعات متعددة، حملتها جميعاً إلى صديقي وأهديته إياها، ما خلا النسخة المسروقة، وحين رويت له قصة اختفائها من مكتبته، بررت له فعلتي بما رواه إمام البيان العربي «الجاحظ» في «المحاسن والأضرار» عن حاتم الطائي حين نزل عليه ضيف على راحلة في ليل، ولم يكن عنده طعام، فعمد إلى نحر راحلة ضيفه، وأطعمه من لحمها، ثم بعد أن طلع الصباح، وأغار بنو طيّ في الصحراء وغنموا مائة راحلة، قدمها جميعها حاتم إلى ضيفه معتذراً. قال لي صديقي ضاحكاً: ليس هذا كرماً، بل هو هستيريا الكرم... هستيريا الحكاية العربية.
حسناً، ما زال الذين يذكرونني حتى اليوم، في كتاباتهم أو تعريفاتهم بي، يقولون: صاحب «قصائد مهرّبة إلى حبيبتي آسيا»، وربما اختصروا فقالوا: صاحب «قصائد مهرّبة..». وكان صدور الديوان، قد تزامن مع نشر القصيدة التي حملها اسمها، المكتوبة عام 1974، في مجلة «مواقف» التي كان يشرف عليها الشاعر أدونيس.
أما لماذا نشرت هذه المجموعة في «دار الآداب»، وهي دار مرموقة في حينه، فبسبب انحياز الدكتور سهيل إدريس إليها، وخطفها مني، إذا صحت العبارة. فقد كنت قد اشتركت بها في «مربد» الشعر العربي الرابع في البصرة، في ذاك العام، وكان من شهود هذا المربد نجوم الشعر العربي الكبار من أمثال محمد مهدي الجواهري، ونزار قباني، وأحمد عبد المعطي حجازي، وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري وسعدي يوسف. وأنا يومها، أحمل قصيدتي خائفاً ولم يكن يعرفني أحد. وكان لها تأثير أكثر مما ينتظره أحد من قصيدة، اعتبرت اللُّقيا الباهرة لذاك الاحتفال.
كُتب ذلك في جميع الصحف الصادرة، وسمعته بأذني من كبار الشعراء. لقد أدهشني جبرا إبراهيم جبرا بتعليقه، كذلك البياتي ويوسف الصائغ، وسهيل إدريس، وطلب مني الروائي سعد البزار، أن يصدر لي مجموعتي الشعرية الأولى، بنفس العنوان، في بغداد، فقبلت ونظمت بيني وبينه عقداً خطياً في الطائرة. عند العودة، صادف جلوسي إلى جانب الدكتور سهيل إدريس، الذي عرض عليّ إصدار مجموعتي الأولى عن «دار الآداب».
سررتُ بالعرض، ولكنني أخبرته بالاتفاق على صدور الديوان في بغداد، قال: شرطي لإصدارها في بيروت هو فكّ ارتباطك المذكور، وأرشدني إلى الطريقة. قال: راسلْ سعد البزار واعتذر إليه بأنك غير راضٍ فنياً عن المجموعة، واطلب فكّ العقد لهذا السبب. وقد نفذت بالفعل ما حكناه معاً في الطائرة، واسترددت المجموعة من بغداد، لأسلمها في اليوم نفسه إلى سهيل إدريس. وهكذا صدرت في طبعتها الأولى.
ولو رجعت اليوم إلى أرشيف تلك الفترة (1974 ـــ 1975)، لوجدت أن ديواناً واحداً مثّل رجّة شعرية، في ذلك الزمن الشعري الخطير، الذي كان يتقاسمه تياران قويان من الشعراء، يمثل أحدهما أدونيس وأنسي الحاج من خلال مجلة «مواقف» وجريدة «النهار»، ويمثل الثاني شعراء ضمتهم مجلة «الآداب» كعبد الوهاب البياتي وخليل حاوي وعبد المعطي حجازي وبلند الحيدري وسعدي يوسف وسواهم. «قصائد مهرّبة» حملتها «مواقف» وصدرت عن «دار الآداب».
أول نقد خطير وعميق كتب عن الديوان، كان مقالة مسهبة لمحمد عيتاني نشرت في «الآداب». وكتب جبرا إبراهيم جبرا: «قصيدة فاتحة للنار... (وهي إحدى قصائد الديوان) تظهر طاقة شعرّية فريدة، تترجم شعرياً، وعن فهم، العصر الحاضر والتراث الإنساني بكل البؤس واللا إنسانية والتمزق المتواجد فيها».
وكتب عصام محفوظ في «ملحق النهار»، كتابة بين الدهشة والتوجّس. وقام المستشرق الإسباني الكبير الدكتور بيدرو مونتابيث، بترجمة قصيدة «البحث عن غرناطة» وكتب مقالاً مسهباً في القصيدة، نشره معها بالإسبانية، في كتيّب على حدة، صادر عن مجلة «المنارة» في مدريد عدد 1975/1976. وفيه يقول:.. شعر وجودي بقوة، يغوص في الأساطير، مليء بالرموز والإشارات... شعر علينا أن نقترب منه تدريجياً بعد الصدمة التي يولدها لدى قراءته للمرة الأولى...».
أنا اليوم، وبعد أربعين عاماً على صدور «قصائد مهرّبة إلى حبيبتي آسيا»، ما زلت أدخل إلى قصائده، مثلما يدخل طفل إلى غابة مكتظّة بالأشجار والطيور والحيوانات الوحشية، مزوداً بالبراءة الأولى... تلك البراءة الكاسرة، لطفل الشعر الوحشيّ الأول.