رغم مرور ما يقارب 300 عام على ولادة الحركة الوهابية، إلا أنّها لا تزال مُقصاة عن البحث والتحليل إلى حد بعيد. القبضة السعودية التي تسيطر على معظم المنابر تعمل بحرص على إبعاد هذه المسألة عن تداول الباحثين
يمثل «الوهابيّة بتقارير القنصليّة الفرنسيّة في بغداد 1806-1808» («الورّاق»/ بغداد- بيروت) أهمية كبيرة كونه أحد الأعمال التي بدأت برمي الحجارة في المياه الراكدة للمشهد البحثي العربي بشأن هذه الحركة. المؤلف الذي أنجزه هاشم ناجي ينقسم إلى ثلاثة فصول، تتضمن تقريري القنصلين الفرنسيين في بغداد جان ريمون وجان لوي روسو إلى جانب دراسة للمؤرخ العراقي الراحل علي الوردي
رغم مرور ما يقارب 300 عام على ولادة الحركة الوهابية، إلا أنّها لا تزال مُقصاة عن البحث والتحليل إلى حد بعيد. بالطبع، يصحّ هذا القول على المشهد البحثي العربي-الإسلامي، بخاصة أنّ القبضة السعودية التي تسيطر على معظم المنابر تعمل بحرص على إبعاد هذه المسألة عن تداول الباحثين إلا ضمن بوتقة محددة الأهداف والتوجهات.
ولذا من الطبيعي أن يكون أيّ كتاب جديد عن الوهابية بمثابة كنز حقيقي، بصرف النظر عن مدى موضوعيته. وستزداد أهمية الكتاب لو كان مستنداً إلى وثائق تاريخية حتى لو كانت مُدرَجةً من دون تحقيق. وهنا تكمن أهمية الكتاب الذي أعدّه هاشم ناجي «الوهابية بتقارير القنصلية الفرنسية في بغداد 1806-1808» الذي صدر أخيراً عن «دار الورّاق» (بغداد-بيروت).
ينقسم الكتاب إلى ثلاثة فصول تضم «تقرير القنصل الفرنسي في بغداد جان ريمون- 1806» (ترجمة هدى معوّض)، و«تقرير القنصل الفرنسي في بغداد جان لوي روسو-1809» (ترجمة خالد عبد اللطيف حسن)، ثم أضاف إليهما معدّ الكتاب، بسبب «عدم موضوعية التقريرين»، دراسةً عن الحركة الوهابية للمؤرخ العراقي علي الوردي (1913-1995) من المجلّد الأول من كتابه الموسوعي «لمحات اجتماعيّة من تاريخ العراق الحديث».
لم يقدّم التقريران تفاصيل جديدة، تاريخية أو تحليلية، لما هو معروف أساساً عن تاريخ الحركة، ولكن تنبع أهميتهما من كونهما مترجَمين للمرة الأولى إلى العربية، بحيث يقدّمان لمحةً طفيفة عن وجهة النظر الفرنسية بشأن الوهابية وتاريخ الجزيرة العربية في القرن التاسع عشر. أما دراسة علي الوردي، فقد تضمّنت تحليلاً موضوعياً لأسباب انتشار الحركة في الجزيرة، وبدايات توغّلها نحو العراق وبلاد الشام.
يشير الوردي إلى أنّ فكرة «إعادة الإسلام إلى أصوله الأولى» لم تكن وليدة أفكار محمد بن عبد الوهاب (1703-1791)، إذ إنّ ابن تيمية سبقه إليها قبل خمسة قرون. لكنّ سبب نجاح ابن عبد الوهاب في ما أخفق فيه ابن تيمية كان أنّ ابن عبد الوهاب نادى بالحركة في بيئة بدوية فيما نادى ابن تيمية بها في بيئة حضرية لم تتقبّلها. ويُرجع الوردي سبب ذلك إلى أنّ الوهابية تقوم على نفي وجود الشفاعة، ولذا تقبَّل البدو الحركة لأنهم «لم يتعوّدوا على الوساطة في حياتهم الاجتماعية، وليس لديهم حكّام مستبدّون».
اتخذت شعار «القرآن في يد والسيف في يد» ولم تقبل وجود مناوئين لها
أما الفرد الحضري، فقد اعتاد على الشفاعة في علاقاته مع السّلطة، «وأصبح من الصعب أن يستغني عنها في علاقاته مع ربّه». ثم يختتم تحليله بالإشارة إلى أنّ عقائد وطقوس العامة هي «صدى لعاداتهم وعلاقاتهم الاجتماعية، ثم يأتي رجال الدين بعدئذ، فيؤيّدون العامة في ما يعتقدون وما يفعلون». ليست ثمة إشارة، عند الوردي، إلى تغيّر الوضع وتحولاته عند توحّد السلطتين الدينية والسياسية كما حدث لاحقاً في المملكة السعودية.
لكنه يَخلص إلى أنّ العنف الذي رافق انتشار الحركة الوهابية كان سبباً آخر في إثارة الخوف الذي نبع بأشكال متعددة عند السلطة القائمة آنذاك، أي العثمانيين، وعند الناس. خشيت بعض القبائل بطش الوهابيين فانضوت تحت رايتهم، فيما حاولت السلطة وقبائل أخرى محاربة الحركة مرات عديدة قبل أن ترضخ قبائل أخرى في الجزيرة، وبقي النفور على حاله في العراق، بخاصة بعد المجازر الوحشيّة التي قامت بها الحركة في مدن عدة لا سيما كربلاء عام 1802 والنجف عام 1806.
رغم تقارب التوصيف التاريخي في التقريرّيْن الفرنسيَّيْن لنشوء وانتشار الحركة الوهابية، إلا أن ثمة تباينات في النظر إلى طبيعة «العقيدة» الوهابية. يعتبرها جان ريمون «ديانة جديدة مختلفة عن المحمّدية»، فيما يكتفي جان لوي روسو باعتبارها «طائفة لا ديانة». لكنهما يشتركان في تأكيد أنّ الحركة اتخذت شعار «القرآن في يد والسيف في يد» منذ انطلاقتها، وبأنها لم تقبل وجود مناوئين لها، ضمن حدود الجزيرة أو خارجها.
كما أنّ الحال لم تختلف بين عهدي سعود وابنه عبد العزيز اللذين اعتنقا العقيدة الوهابية بإخلاص شرط إبقاء السلطة السياسية لهما، مع التخلّي عن السلطة الدينية للوهابيين. وكذلك، كان العهدان متماثلين في الاعتماد على النهب والغزو كوسيلتين أساسيتين في العيش من جهة، وكوسيلة اتّبعها محمد بن عبد الوهاب لإشغال أفراد الجيش عن توجيه النزعة العنفيّة لديهم نحوه. ويشير التقريران إلى أنّ حصّة عبد العزيز من الغنائم كانت الخُمس، وكلّ ما تبقّى كان للجنود.
وكانوا يفرضون دفع عُشر ثروات القبيلة التي ترضخ لهم سلمياً بعد فرض حاكم عليها، بحيث كانت الجزية تشمل كل شيء «بمن فيها الرجال، لدرجة أنّ واحداً من كلّ عشرة من العرب يضطر دائماً للخدمة في قطعات عبد العزيز مجاناً». أما عن محاربة الوهابيين لكل الشعائر التي تخالف عقيدتهم فقد وصل إلى درجة إحراق المحمل المصري في موسم الحج عام 1806، عدا منع حليق الذقن من القدوم إلى الحرمين، ما أدّى إلى انقطاع المصريين والشاميين عن الحج منذ ذلك الحين.
بالطبع، لا يمكن الركون إلى هذا الكتاب بوصفه مرجعاً قاطعاً عن الحركة الوهابية بين 1806-1808 ما لم تتم ترجمة ونشر التقارير التركية والبريطانية والعربية والفرنسية الأخرى، كما يشير معدّ الكتاب في مقدّمته. لكنّ الكتاب يمثّل أهمية كبيرة لكونه أحد أحدث الأعمال التي بدأت برمي الحجارة في المياه الراكدة للمشهد البحثي العربي بشأن الوهابيّة، بخاصة بعد ولادة مراكز ودور نشر جديدة مستقلة عن القبضة السعودية بدرجات متعددة.