طغت الجريمة الشنعاء التي ارتكبتها عصابات «داعش» الإرهابية بقيامها بحرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة على مشاعر وعواطف مواطنينا في سورية والأردن والوطن العربي والعالم معه
أيها العرب: ما هكذا تورد الإبل!
د. فيصل المقداد
طغت الجريمة الشنعاء التي ارتكبتها عصابات «داعش» الإرهابية بقيامها بحرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة على مشاعر وعواطف مواطنينا في سورية والأردن والوطن العربي والعالم معه. ولم يكن ذلك غريباً، خصوصاً بالنسبة إلى شعبنا العربي السوري الذي كان طيلة تاريخه الحضن الدافئ للعرب والذي لا يميز بين ضحية سورية وضحية يمنية أو ليبية أو مصرية أو أردنية، فهو يؤمن أنه في كل مرة يصاب فيها الجسد العربي بالتوعك، فإن باقي أجزاء الجسد يجب أن تتداعى بالسهر والحمى.
وانطلاقاً من ذلك فإن الموقف النبيل الذي عبرت عنه حكومة الجمهورية العربية السورية نيابةً عن شعب سورية إزاء جريمة «داعش» بحق الطيار الكساسبة وإدانتها لهذا النوع المنحط من الممارسات الهمجية واللاأخلاقية، التي لا يمكن لأية كلمات أو عبارات في اللغة العربية وغيرها من اللغات أن تعبر عنها. إلا أن ذلك كما جاء في بيان الحكومة السورية يملي علينا جميعاً القيام من دون انتظار أو تردد بالتنسيق بين دولنا العربية في إطار مكافحة الإرهاب. نعم، تعازينا الصادقة لأهل الطيار الكساسبة ولشعبنا الأردني وعشائره العروبية وضباط جيشه وأحزابه الوطنية والقومية والتقدمية من متقاعدين وعاملين، لأننا كنا وما زلنا وسنستمر بالتعويل عليهم في معاركنا ضد الإرهاب وضد الاحتلال الصهيوني لأرضنا العربية وضد المؤامرات الغربية على دولنا وضد سياسة التضليل التي مارستها أجهزة الإعلام الغربية لحرف انتباه شعبنا في الأردن وغيره من الدول العربية عن الأسباب الحقيقية للكارثة التي واجهتها عائلة الكساسبة وآلاف العائلات العربية على امتداد الوطن من محيطه إلى خليجه خلال السنوات القليلة الماضية. إن صب البنزين على الطيار معاذ الكساسبة وإحراقه وهو على قيد الحياة والانتقام لاحقاً من جثمانه، لا يمكن أن يلقى منا إلا الإدانة والتعبير عن القرف من ممارسات هذه المجموعات التي افتقدت الحد الأدنى من الإحساس البشري وتصرفت كالوحوش المتعطشة للدم. وإذا أعتقد هؤلاء الإرهابيون أنهم بإرهابهم هذا قادرون على إخافتنا وإخافة أشقائنا في الأردن وغيره من ممارساتهم فهم واهمون. وفي الوقت الذي فاقت هذه الجريمة المروعة كل التصورات والممارسات الشيطانية، وفاقت أيضاً الجريمة التي ارتكبتها «داعش» ضد الفرنسيين العاملين في صحيفة الكاريكاتير «شارل إيبدو»، فإننا لم نر ولم نسمع من القادة الغربيين سوى كلمات خشبية تعودوا على استخدامها في كل مرة تقع فيها مثل هذه الجرائم. وعلى رغم مشاركة القيادة الأردنية في التظاهرة التي تداعى إليها الكثير من الزعماء في شوارع باريس تنديداً بتلك الجريمة، إلا أننا لم نر تداعياً لتنظيم مثلها في عمّان أو في مضارب عشيرة الكساسبة للاحتجاج على الهمجية الداعشية التي لا سابق لها في تاريخ العرب والمسلمين، مع أننا نعرف أن نيرون الإمبراطور الروماني 37-68 ميلادي كان قد أحرق روما في عام 64 ميلادي، وها هم تلامذته الداعشيون يكررون المشهد نفسه بعد حوالى ألفين من السنين. أما أهلنا من عشيرة الشعيطات في دير الزور الذين قتلت قطعان «داعش» أكثر من ألف منهم وبنفس الطرق المشينة، فإنها مرت مرور الكرام أمام أهل «الحضارة والنخوة من العرب والغرب» من دون أن تنبس شفاههم بكلمة واحدة ومن دون أن يصدر مجلس الأمن بياناته التي أصبحت مملة ومكررة، ضد هذه الجرائم.
لا يختلف عاقلان على أن ما يطلق عليه تسمية التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب والذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية يحتوي على عوامل فشله في داخله وفي أهدافه، فكيف يمكن لنا أن نصدق أن هذا التحالف سيحارب «داعش» وفيه دول مثل السعودية وتركيا تتحالفان مع داعش في السر بالنسبة للأولى وفي العلن بالنسبة للثانية. والأكثر من ذلك، الوثائق التي يطالعنا بها الإعلام الغربي وغيره والتي تؤكد أن البغدادي، زعيم «داعش»، قد تربى على الإرهاب في معتقلات الولايات المتحدة الأميركية في العراق. وكيف يمكن لنا أن نصدق أن هذا التحالف يخوض معركة جادة ضد الإرهاب وهو يدفع بقطعان «داعش» من العراق وتشجيعها على ممارسة القتل والدمار في سورية؟ والأكثر من ذلك هو كيف لشعبنا في السعودية وقطر والإمارات والأردن وليبيا التي يشارك بعضها في التحالف وتوقفت إحداها عن ذلك أن يصدق أن هذه حرب على الإرهاب وهي لا تنسق هذه الحرب في شكل مخلص مع العراق ومع سورية، البلدان اللذان ذاقا مرارة الإرهاب الذي يقوم حكام الرياض واسطنبول والدول الغربية بتمويله وتسليحه وتدريبه، وتتجاوزان فيه سيادة سورية ودور مجلس الأمن كما ينص على دوره ميثاق الأمم المتحدة، وتجاهل عشرات الدول الأخرى كبيرها وصغيرها التي كان يمكن أن تقوم بدور هام في هذه المعركة على الإرهاب؟
إن أكثر من يعرف طبيعة الهمجية الإرهابية على سورية والدول الداخلة فيها منذ بدايتها في عام 2011 وحتى الآن هم من يقوم من جيران سورية بإيواء المسلحين الإرهابيين وتسليحهم وتمويلهم وتدريبهم ومن ضمن هؤلاء، للأسف، الأردن. ونحن في سورية نعرف غرف العمليات التي يداوم فيها ممثلون عن أجهزة الاستخبارات «الإسرائيلية» والأميركية والسعودية والقطرية والفرنسية والتركية. نعم، نحن نعرفهم بالأسماء، وإذا كان البعض لا يعترف بذلك ويحاول إنكاره فإنه يكذب على نفسه فقط. وفي هذا المجال مارست السلطات السورية أقصى درجات ضبط النفس سواء في الشمال أو الجنوب انطلاقاً من حرص سورية على عدم إيذاء أهلنا وأحبتنا في الأردن وغيرها، كما حذرنا من تسول له نفسه في لبنان قتل السوريين بأن يتوقف عن تصدير الإرهاب وأجهزة القتل إلى السوريين. ولا أبالغ إذا قلت أنه في كل مرة يقترب فيها انتصار أبطال الجيش العربي السوري على الإرهابيين من «داعشيين» و»نصرة» و»جيش حر» ومجموعات مسلحة مثل «جيش الإسلام» والكتائب التي لا يوجد فيها من الإسلام إلا اسمها، فإنني أؤكد أنه لولا شريان الحياة التي توفره بعض الدول الغربية والعربية و»إسرائيل» في شكل خاص للقتلة والإرهابيين لكانت سورية قد حسمت هذه المعركة مع الإرهابيين منذ الأيام الأولى لاندلاعها ولكانت قد وفرت على الأردن رحيل واحد من أبنائها الذي لم ينذر نفسه للقتال في شمال سورية والعراق، بل للقتال ضد «إسرائيل» وأدواتها في المنطقة. والسؤال الأساسي الذي يحير العرب هو: كيف لهذه الدول العربية وغيرها أن تقوم بتنسيق حربها المزعومة ضد الإرهاب مع الولايات المتحدة وفرنسا وكندا وأستراليا وغيرها من الذين يستهدفون كرامة العرب والإسلام ومستقبل أمتنا حيث همهم الأساسي هو حماية أمن «إسرائيل» واحتلالها للأراضي الفلسطينية والسورية واللبنانية، ولا ينسق هؤلاء «العربان» حربهم هذه مع بلد عربي شقيق؟ وإذا توصل هؤلاء إلى قناعة بأن العرب لم يعودوا أشقاء لبعضهم، فكيف لا يتعاملون مع بعضهم كدول جارة؟ كما يطرح ذلك أيضاً مسألة عزم الولايات المتحدة التعاون مع آل سعود ونظام رجب طيب أردوغان على تدريب ما يسمونه معارضات مسلحة معتدلة في السعودية والأردن وتركيا لأن خريجي هذا التدريب لن يكونوا أفضل من «داعش» و»جبهة النصرة».
إن اللحظات الحاسمة والحزينة تملي على الجميع منطق المصارحة، كما تملي عليهم ضرورة وضع النقاط على الحروف لأن الأميركي الذي لا يعرف أين تقع الأردن وغيرها من البلدان العربية إلا إذا تم تحديد موقعه بالمقارنة مع الخريطة «الإسرائيلية»، لا يمكن أن يكون قريباً من الأردني، وهو، أي الأميركي، يحاول قتل القلب السوري. وكفانا مزاودة في إرضاء الأميركيين و»الإسرائيليين» وحكام الدول الغربية الحاقدين علينا عرباً وإسلاماً كما هي الحال مع هولاند ووزير خارجيته المعتوه اللذين يكرهان سورية شعباً وحضارة والاستجابة لطلباتهم والعمل على إنقاذهم من ورطاتهم وإخراجهم من أوحالهم وتمويل حملاتهم الانتخابية شراء لضمائرهم!
إن الدرس الذي يجب أن يخرج به العرب من جريمة الإرهابيين الداعشيين بحرق الطيار معاذ الكساسبة ليس ذرف الدموع فقط، بل إعادة النظر في كل السياسات التي قادت إلى مثل هذه الكارثة، خصوصاً أن «جبهة النصرة» التي يدعمونها، و»الجيش الحر» الذي مولوه وقدموا له السلاح بسخاء لا نظير له هما اللذان بدآ بحرق الناس أحياء وهما اللذان أكلا القلوب والأكباد، فهل يجب انتظار أن يحرق هؤلاء قلوب مزيد من أبناء الجيش الأردني وأهلهم حتى يصحوا؟ أما إذا بقينا ندور في فلك الدعاية والتصريحات الغربية الكاذبة والمملوءة بالحقد والنفاق والتي رأيناها على تجلياتها مؤخراً، فإن مثل هذه الكارثة ستتكرر في كل أقطارنا العربية وستنتشر لاحقاً إلى كل العالم. وعندما حذر الرئيس بشار الأسد، الذي التف السوريون وجيشهم البطل خلف قيادته، قبل عدة سنوات مما جرى في باريس وعواصم غربية وعربية، فإنه إنما كان يستقرئ بحكمته وبصيرته حتمية انتشار هذا الإرهاب إلى خارج سورية ومخاطره على الأمن والسلم الدوليين.
هنالك الكثير مما يمكن أن يقال في لحظات الحزن والتأثر، لكن السؤال الذي لم أجد جواباً عليه بعد فهو: كيف يمكن لأي نظام سياسي أن يحارب الإرهاب في شمال سورية، ويقوم بتسليح وتدريب وتمرير الإرهابيين لقتل السوريين وتدمير بلدهم في جنوب سورية؟
http://www.al-binaa.com/?article=28304
موقع المنار غير مسؤول عن النص وهو يعبّر عن وجهة نظر كاتبه