"أعزائي وزراء الخارجية، أكتب لكم الآن من كييف حيث نعيش أوقاتا عصيبة. أعرف أنكم تريدون فعل شيء لأجلنا، ولصالح مستقبل أوروبي لأوكرانيا، لكن أرجوكم أن تتمهلوا.
وسيم ابراهيم
"أعزائي وزراء الخارجية، أكتب لكم الآن من كييف حيث نعيش أوقاتا عصيبة. أعرف أنكم تريدون فعل شيء لأجلنا، ولصالح مستقبل أوروبي لأوكرانيا، لكن أرجوكم أن تتمهلوا. لا نريد عقوبات على روسيا الآن. نحن في وضع لا نحسد عليه، ونحتاج إلى الحديث مع الروس لكبح تقدم الانفصاليين".
وفق كلام من كان في الاجتماع، كانت تلك خلاصة رسالة بعثها وزير الخارجية الأوكراني بافلو كليمكن، لنظرائه الأوروبيين الذين كانوا يعتزمون تشديد العقوبات على موسكو. لم يفعلوا طبعا، فالكلمات الديبلوماسية للوزير الأوكراني كانت منذرة بما فيه الكفاية. الأعصاب مشدودة للغاية الآن، في انتظار نتائج قمة العاصمة الروسية مينسك، بين زعماء روسيا وأوكرانيا والمانيا وفرنسا.
كل تلك الضغوط جعلت مسؤولين أوروبيين ينذرون بأن المحادثات هي "الفرصة الأخيرة"، لوقف التصعيد، وإلا سينفلت في كل اتجاه. سيزداد على الجبهة العسكرية، مع مبادرات غربية لتسليح أوكرانيا تلوح في الأفق، وعلى جبهة العقوبات حيث إصبع الأوروبيين الآن باتت تماما على الزناد.
كل هذا ينذر أيضاً بمزيد من الاستعصاء على مسرح التفاوض الدولي، خصوصا حول الأزمة السورية التي تلعب فيها روسيا، واشنطن وخلفها الغرب، دورا متقدما. حتى الآن كان بالامكان الحديث عن قفز الطرفين عن خلافات أوكرانيا المستحكمة، للعمل على الملفات الدولية الأخرى في سوريا والعراق وملف إيران النووي. لكن لحظة انفجار التصعيد، كما أنذر الأوروبيون، ليس معروفا مَن سيسلم مِن شظاياها.
رسالة وزير الخارجية الأوكراني جعلت الأوروبيين يجمدون تطبيق العقوبات. كانوا أقروا حزمة جديدة، تضيف 19 شخصية وتسع شركات إلى قائمتهم السوداء، لكنهم أعلنوا أن تنفيذها سينتظر حتى الاثنين المقبل. في ذلك اليوم ستكون غيوم العاصفة الحالية انقشعت: هل عقدت قمة مينسك، وهل خرجت باتفاق، وهل وجد طريقه للتطبيق؟ حينها فقط، يمكنهم إما إلغاء تلك العقوبات، أو إقرار نفاذها. القصة لن تكون في تنفيذ تلك الحزمة، بل ستكون فاتحة لمستوى جديد من حرب العقوبات المؤلمة.
لسان وزير الخارجية الاسباني خوسيه غارسيا مارغالوا كان الأكثر انطلاقا في بروكسل. قال إن إنجاز اتفاق في مينسك سيكون "الفرصة الأخيرة" و"الحل الوحيد لتجنب حرب باردة عسكرية اقتصادية"، قبل أن يحذر من أنه "سيكون لها كلفة كبيرة على الجميع".
ذكّر مارغالوا بأن صادرات الأوروبيين خسرت، جراء العقوبات الروسية المضادة، ما يقارب 21 مليار يورو، وإنها آذت خصوصاً بلاده لجهة الصادرات الزراعية وقطاع السياحة. في المقابل، يعاني الاقتصاد الروسي أزمة كبيرة، مع تهور قيمة الروبل وأسعار النفط. وصلت الأزمة إلى تهليل الأميركيين لأن سندات دين روسيا باتت مصنفة على أنه "سندات خردة"، ما يعني أن الاستدانة من الأسواق المالية لن تكون ممكنة.
المقبل أعظم، كما يقول وزير الخارجية الدنماركي مارتن ليدغارد، لـ"السفير". أكد أن روسيا لن تسلم من نيران هذا التصعيد، معتبراً أنه "في مصلحة روسيا إيجاد السلام، لأن الثمن الذي سيدفعونه سيكون هائلا على المدى الطويل". رأى أيضا أن الأزمة، وكل لاعبيها، يقفون الآن على مفترق طرق لأن "الوضع خطير جدا، ونداء زعيمي فرنسا وألمانيا هو المحاولة الأخيرة لنزع فتيل التصعيد بدلا من تركه يتأجج".
هذا الوضع هو ما جعل الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند ونظيرته الالمانية أنجيلا ميركل يطيران إلى كييف ثم موسكو على وجه السرعة. حملا معهما خطة سلام، هي في الأصل محاولة لوضع آليات من أجل تطبيق اتفاق هدنة بقي حبرا على ورق.
الاتفاق الأساسي كان وقّع في مينسك أيضا، خلال أيلول الماضي، ووضع خطوطا عريضة للتسوية. سحب المعدات الثقيلة، إيجاد منطقة عازلة منزوعة السلاح، إقامة حكم ذاتي واسع في مناطق الانفصاليين وإجراء انتخابات هناك.
لكن معضلة الاتفاق كانت في مساحة "الغموض البناء" التي تركت فيه، وما كان مستطاعا توقيعه بدونها. الاتفاق أقرّ الحكم الذاتي للمناطق التي تقع تحت سيطرة الانفصاليين، وهذا ما ترك الباب مفتوحا لسعيهم إلى توسيع المناطق التي يسيطرون عليها. يقولون إنهم يدريدون حكما على كامل منطقة "دونباس"، التي تضم إقليمي دونيتسك ولوهانسك. هذا يعني منطقة هي ضعف ما بين أيديهم الآن، وتشكل مساحة عازلة تصل من حدود روسيا إلى مشارف جزيرة القرم. لتلك الأسباب أيضا، صارت المعارك أكثر شراسة عشية محادثات السلام المرتقبة.
هكذا دفع الانفصاليون بنقاط التماس، وكسبوا مناطق جديدة في جولات المعارك. يدور الجدل الآن حول طول المنطقة منزوعة السلاح، ومن أين ستأتي قوات حفظ السلام التي ستراقب فك الاشتباك، وفوق ذلك من سيتحكم بإدارة المنافذ الحدودية بين مناطق الانفصاليين وروسيا.
المسألة الجوهرية تختفي خلف تلك التفاصيل، كما أكد مسؤولون أوروبيون. قال بعضهم إن ما تريده روسيا هو تحويل أوكرانيا إلى فدرالية، وأن يكون لمناطق الانفصاليين سلطة القرار في السياسية الخارجية. الهدف من ذلك، بكلمات الوزير الاسباني، هو ضمان روسيا لوجود "فيتو على دخول أوكرانيا للاتحاد الاوروبي والأكثر أهمية هو الحلف الأطلسي". شدد على أن ذلك مرفوض غربيا، لأن "حكومة مركزية ليس لديها هذه السلطة هي تقريبا لا دولة أو دولة فاشلة".
ربما تتوارى الحقائق وسط الاتهمامات المتبادلة، بين روسيا والغرب، حول حجم الدعم للانفاصليين. لكن جمع روايتهما، جنبا إلى جنب، يمكن أن يجعل القصة كالتالي: آلاف المواطنين الروس، يقررون "الاستجابة لنداء الضمير" لنجدة أبناء جلدتهم في أوكرانيا، لكن يحدث أنهم عسكريون ولديهم أسلحة ثقيلة، فيمضمون لتنفيذ "الواجب" بما لديهم. الواضح أن القوة الساحقة، التي يظهرها المتمردون الآن، لا يمكن أن تكون سقطت من السماء، التي لا تمطر دبابات وراجمات صواريخ.
لكن الاتهمامات هي الأخرى تحجب قصة إلحاق أوكرانيا بالنفوذ الغربي. أيضا جمع الروايتين يعطي التالي: كل ما هنالك أن أوكرانيا هي بلد يعرض عليه الاوروبيون شراكة، مغرية جدا وحماية، لكن شرطها الأساسي هو استحالة الشراكة في نفس الوقت مع روسيا.
دول التكتل الاوروبي الشرقية هي الأكثر دفعا لردع موسكو، فلديها نسبة معتبرة من السكان الروس وتخشى من عبث عقول الكرملين بأمنها. يقول وزير خارجية ليتوانيا، ليناس لينكيفشيوس، لـ "السفير" معترضا على "التساهل" الأوروبي: "ما نحتاجه ليس استرضاء المعتدي، ليس الأكاذيب، بل تسمية الأمور بمسمياتها وإقامة الاعتبار للحقائق". في انتقاد ضمني لجولات محادثات السلام التي لم تحقق شيئا، يقول إن "هذه المحادثات، والصور العائلية والمصافحات، يمكن أن تستمر إلى الأبد".
لكن بعض المسؤولين الأوروبيين لفت إلى أن التحرك السريع جاء ردا على تحرك آخر، يقوم به الأمريكيون ضد رغبة حلفائهم كما لمسوه في مؤتمر ميونخ للامن قبل أيام. القصد هو عزم واشنطن توريد الأسحلة لكييف، ربما بمساهمة بريطانيا، وهو ما يعترض عليه الأوروبيون بشدة. مصدر مخاوفهم هو خشية، هناك ما يكفي لتصديقها، من أن روسيا ستجد ذلك كافيا لتقديم دعم أكثف ومعلن للانفصاليين. هنا لا يمكن إلا تذكّر الوعيد الملطّف، الذي خرج من الكرملين، حينما كرر أن موسكو "لن تسمح" بهزيمة الانفصاليين.
موقع المنار غير مسؤول عن النص وهو يعبّر عن وجهة نظر كاتبه