التآلف هو ليس عملية منتهية، بل هو عملية غير منتهية، وعملية يومية ومستمرة، وهي حالة دائمة، وتبقى في حالة إنجاز يومي مستمر ومتواصل، وعندما يتراجع العمل بما أوحى به الله، تتوقف عملية التآلف
استضاف منتدى الأربعاء في مؤسسة الإمام الحكيم الدكتور محمد السماك أمين عام لجنة الحوار الإسلامي ـ المسيحي في لقاء حواري تحت عنوان "علاقات المسلمين مع بعضهم ومع الآخر" بحضور حشد من الشخصيات الدينية والأكاديمية والإعلامية..قدّم اللقاء وأداره المحامي الأستاذ بلال الحسيني..
تحدث بعدها الدكتور محمد السماك؛ ومما قاله: في محاضرتي لليوم، سوف أحاول أن أقدم موضوع "العلاقات بين المسلمين وبين البعض الآخر" من وجهة نظر، وهو رأي ربما يكون صحيح يحتمل الخطأ؛ وكذلك رأي الآخر الذي قد يكون خطأ ولكن يحتمل الصواب.. ولذلك أتمنى أن تتحملوا وجهة نظر مختلفة في مقاربة موضوع علاقات المسلمين بين بعضهم أولاً، ثم علاقاتهم مع الآخرين ثانياً..
عندما أفكر بالعلاقات بين المسلمين، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن هو "الآية 63" من "سورة الأنفال"، وكأنها تقدم دراسة نفسية عن المجتمع العربي الإسلامي، وفي هذه الآية يخاطب الله الرسول (ص) بقوله تعالى: ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ﴾.. والآية تبين أن النبي (ص) كان يريد أن يؤلف بين قلوب المسلمين العرب، لكنه ـ كما يظهر في الآية ـ لم يستطع، وكأن لا فائدة من ذلك كله.. بينما الله (سبحانه وتعالى) ألف بينهم وليس بين قلوبهم، وهو مستمر فينا من خلال القرآن الكريم، إذاً يعني أن أداة التأليف بين المسلمين هي القرآن الكريم..وقد كانت الترجمة العملية لهذه الآية بعد وفاة النبي (ص) مباشرة، حيث وقعت أحداث سقيفة بني ساعدة إلى الإمارة، والنزاع على توليها سواء من قريش أو من خارجها، ودلّ ذلك على أنه لا يوجد تآلف بينهم..
بالعودة إلى القرآن الكريم وإلى الله، فمن الممكن أن يكون هناك تآلف بين المسلمين العرب والالتزام بالتعاليم الواردة في القرآن الكريم حتى يتم التآلف بينهم.. وهذا يعني أن المسلمين يتآلفون أو يتنافرون تبعاً لاقترابهم أو ابتعادهم عن المبادئ التي أوحى بها الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم.. وهذه هي القاعدة..إلا أن التآلف هو ليس عملية منتهية، بل هو عملية غير منتهية، وعملية يومية ومستمرة، وهي حالة دائمة، وتبقى في حالة إنجاز يومي مستمر ومتواصل، وعندما يتراجع العمل بما أوحى به الله، تتوقف عملية التآلف؛ تماماً كما يحصل عندما يتوقف القلب عن ضخ الدم فتنتهي الحياة بموت الجسم.. فعندما تتوقف عملية التآلف اليومي ينهار الجامع والبنيان المشترك الإسلامي على النحو الذي نشكو منه اليوم..
وأضاء الدكتور السماك على آية أخرى في القرآن الكريم وهي الآية 103 من سورة آل عمران: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا... ﴾.. والتي تسلط الضوء على العلاقات بين المسلمين.. حيث دعا الله (سبحانه وتعالى) إلى عدم الفرقة ولم يدعو إلى عدم الاختلاف، ففرق كبير بين المعنيين.. إذ أن الاختلاف هو سُنّة طبيعية من سُنن الكون، وقد أرادنا الله أن نكون مختلفين، وهذا الاختلاف سواء كان باللغة أو الشكل أو اللون أو الثقافة، فهو يدل على عظمة الخالق.. فكلنا مختلفون لكننا مخلوقون من نفس واحدة، إنما القرآن الكريم دعانا لعدم التفرق لا إلى عدم الاختلاف، لكننا نحول اختلافنا إلى أداة للتفرّق، والذي هو المدخل إلى الصراع والخصام والتحارب.. ومن هنا تبدأ المشكلة الكبرى..
وأضاف: نحن نحاول دائماً الحكم على ما في ضمير الناس، ونقيس صحة أو خطأ إيمانهم على إيماننا.. إلا أن القرآن الكريم يقول لنا: ﴿فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيَما كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ وهذا دليل على أمرين وهما: أن الاختلاف يحكم به الله، وهذا الحكم سيكون يوم القيامة وليس الآن.. مما يعني أن الاختلاف باقٍ حتى يوم القيامة، فليس لي الحق بالحكم على ما في ضمير الآخر، فهذا شأن إلهي، وهذا يعني أنني أتدخل بالشأن الإلهي عندما أحاول الحكم على ما في ضمير الآخر وعلى إيمان الآخر أياً كان إيمانه..
وتابع الدكتور السماك: إن الله تعالى خلق فينا العقل، والله سبحانه وتعالى يفاخر نفسه بخلق العقل، ويعتبر أن أهم ما خلقه هو العقل.. كما إن الإمام علي (ع) يقول: "ربي من أعطيته العقل ماذا حرمته، ومن حرمته العقل ماذا أعطيته؟".. فمن دون العقل لا نعرف الله ولا نعبده.. الله يُعبد بالعقل، وأساس الإيمان هو العقل ومن دونه لا يوجد إيمان ولا عبادة ولا وصول إلى الله.. لكن هذا العقل الذي يعتبره الله (سبحانه وتعالى) أهم ما خلق، يفتح أمامنا آفاق معرفية متعددة ومختلفة، فاحترام العقل هو الذي يؤدي إلى احترام الإيمان المتعدد أو احترام الوسائل المتعددة في التعبير عن الإيمان الإلهي.. وهذه قضية مهمة جداً وحساسة..
وأوضح: نحن ندّعي بأننا نطبق النص القرآني في علاقاتنا وإيماننا، ولكن بالحقيقة نحن نطبق مفهومنا للنص القرآني ولا نطبق النص القرآني بالضرورة كما هو، بل كما فهمناه.. وتتعدد مفاهيمنا باختلاف الآفاق المعرفية التي يفتحها الله في عقول العديد منّا.. فالعقل منفتح وواسع ومن الممكن أن يتوصل إلى مجالات في فهم النص الإلهي تختلف عن فهم الآخر لهذا النص، ولذلك ليس لي الحق في الحكم على إيمان الآخر إن كان صحيحاً أو خطأ..
وفي مقارنة بين النص الديني ـ القرآني ـ المقدّس وبين فهمنا الإنساني لهذا النص قال: أن النص القرآني له صفات ثلاث وهي: مقدس، ثابت ومطلق المعرفة تقابله ثلاث صفات للفهم الإنساني وهي: غير مقدس، متغير ونسبي المعرفة.. وهنا تكمن الإشكالية الكبرى التي يواجهها المسلمون اليوم في معظم علاقاتنا الإسلامية ـ الإسلامية، وهي اعتبار الفهم الإنساني مقدس كقدسية النص القرآني.. إذ إننا اليوم نعتبر هذا الفهم مقدساً ولا نقبل بتغييره وكأنه نص قرآني..
كيف نتعامل مع هذه الإشكالية؟.. بالاتفاق على مبدأ معين، وهو أن الفقه هو مجرد إشعاعات فكرية، تنطلق من فهمها لهذا النص، وأن كل فقهائنا تتلمذوا وتخرجوا من مدرسة فقهية واحدة ومن فقيه أول وهو الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) الذي يعتبر "أبو الفقه الإسلامي".. ولذلك يمكن اعتباره مصدر الإشعاع الفكري الفقهي، ثم جاءت بعده ومضات إشعاعية اجتهدت وأصابت؛ ومن اجتهد وأصاب فله أجران، أجر الاجتهاد وأجر إصابة الحق؛ أما من اجتهد وأخطأ، فله أجر واحد وهو أجر الاجتهاد..
ثم أشار إلى أن هناك أمران يتلاقيان وهما: إطلاقية المعرفة وذلك لأن الله (سبحانه وتعالى) علم "آدم" أي الناس جميعاً ولم يعلم المؤمنين بالله أو المسلمين فقط.. وهذا يعني أن العلم هبة إلهية للإنسان تماماً كالكرامة إذ قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ...﴾.. فالإنسان مكرم لذاته الإنسانية وليس لإيمانه أو عدم إيمانه.. وهذه هي إحدى أنواع العلاقات مع غير المسلمين وغير المؤمنين.. فإذاً العلم والكرامة هبتان من الله لكل الناس ولكل إنسان..
ثمة في القرآن آية تقول: ﴿...إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ...﴾.. فالله (تعالى) يتحدث عن العلماء بشكل عام وليس بالضرورة أن يكونوا علماء دين، صحيح أنهم هم الأقرب إلى هذا الفهم، لكن الآية تتحدث عن الذين علموا بعظمة هذا الكون وعظمة ما في هذا الإنسان من تفاصيل ومن خلق.. عندما يتوصل الإنسان إلى معرفة هذا العلم، فإنه يصبح أشد خوفاً من الله وأكثر إيماناً به..
وتابع السماك: لقد دار حديث وكتب كثيرة حول علاقتنا مع أهل الكتاب كالمسيحيين واليهود، لكني أتجرأ لطرح موضوع جديد وهو أن هناك قواعد مهمة جداً وردت في القرآن الكريم..القاعدة الأولى تقول: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا...﴾.. فالله سبحانه وتعالى يقول إنه بعث لكل أمة رسولاً، ويقول في آية أخرى: ﴿...وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾.. وهذا هو العدل الإلهي، فحاشا لله أن يحاسب مجتمع أو إنساناً لم تصله الدعوة..
القاعدة الثانية فتقول إنه ثمة رسل ذكرهم الله تعالى في القرآن الكريم وآخرون لم يذكرهم حيث قال تعالى: ﴿وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ...﴾.. هؤلاء الرسل الذين بعثهم الله تعالى كانوا قبل البعثة النبوية، لأن النبي محمد (ص) كان خاتم الأنبياء.. وإذا ما تساءلنا من هم هؤلاء الرسل الذين لم يذكرهم الله؟.. قد يكون بوذا أحد هؤلاء الرسل، أو قد يكون "كريشنا".... إلخ، لأن الله (سبحانه وتعالى) لن يترك هذه الشعوب بدون رسل.. ثلثي البشرية هم من المسلمين والمسيحيين، أما الثلث الثالث هم من غير أهل الكتاب كالبوذيين، الهندوس، كونفوشيوس والزرادشت وغيرهم.. وهؤلاء هم أعلامهم الدينية، لكن ليس بالضرورة أن يكون الدين الذي يمارسونه هو تماماً كما أرسل إليهم من الله عبر أحد من الناس كبوذا أو غيره، ففي الإسلام نعرف أن هؤلاء الذين يدعون الإسلام والخلافة الإسلامية، هم خرجوا باسم إسلام جديد..
فإذا كان هؤلاء قد سبقوا الدعوة المحمدية بآلاف السنين، ومع كل ما مر عليه من التغيرات، فهل يمكن أن تكون هي دعوة من الله؟.. لا يمكنني أن أحكم وأقول نعم، فالقرآن الكريم لم يجزم بهذا الأمر، لكنني أقول "ربما".. وهذه الإجابة ـ "ربما" ـ تشكل جسراً للتعامل مع هؤلاء الناس بمحبة واحترام وتقدير، فبالإضافة إلى احترام الكرامة الإنسانية والعلم الذي وهبه الله للجميع، هناك الإيمان، فهم يؤمنون بالله لكن بطريقة مختلفة بغض النظر إذا كانت طريقة صحيحة أو لا..
وفي هذا الموضوع أيضاً، ثمة آية تقول: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ...﴾.. وأخرى تقول: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ...﴾.. فما هو الإسلام؟.. الإسلام هو ليس ما جاء به النبي محمد (ص) وحده، بل هو كل المسيرة الإيمانية بالله الواحد، وكل مسيرة الإستسلام لله الواحد بدءاً من إبراهيم (ع) وانتهاءً بمحمد (ص)، فكلهم آمنوا واستسلموا لله، بمعنى الإستسلام للإرادة الإلهية والقبول بها..
وهناك قاعدة تقول: "الدين واحد والشرائع متعددة".. وهذا يعني إن الإسلام لله واحد، وعندما أقول إن الدين عند الله الإسلام؛ فهذا يعني أنني أحتوي كل المؤمنين بالله وخاصة أهل الكتاب، وعندما يصف القرآن الكريم الإنجيل والتوراة بنص واحد ويقول: ﴿فِيهَا هُدًى وَنُورٌ﴾.. ثم يدعو المسيحيين كما اليهود إلى الالتزام بما أوحى الله لهم في الإنجيل والقرآن وليس فقط بما أوحاه في القرآن الكريم، فما اوحاه بالقرآن الكريم يلزمني أنا، أما المسيحي فهو ملزم بالنص القرآني أن يتبع ما أوحى به الله في الإنجيل، وأن يتبع اليهودي بما أوحى الله به في التوراة بحسب النص القرآني.. ولذلك لا يكون الإيمان إلا شاملاً، بمعنى قبول إيمان الآخر واحترامه، واعتبار العلاقة مع الآخر ـ وبخاصة مع أهل الكتاب ـ هي علاقة إيمانية وليست علاقة تسامحية.. نحن لا نتسامح مع المسيحيين بمعنى تسامح في فوقية المتسامح تجاه المتسامح معه، بل نحن نؤمن بالمسيحي علاقة إيمانية.. وهذه هي القاعدة للعلاقة والمبنية على هذه النصوص القرآنية..
وختم الدكتور السماك بالقول: ما يستوقفني بدهشة وإعجاب كبير هو عندما يقول الله (سبحانه وتعالى) في سورة الأنعام، الآية (54): ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ...﴾.. وهذا يعني أن الله سبحانه وتعالى ألزم نفسه بالرحمة، وهذه الرحمة ليس للمسلمين والمؤمنين فحسب، بل الرحمة للناس.. وقد ورد في الحديث الشريف: "ارحموا مَن في الأرض يرحمكم مَن في السماء".. ومَن في الأرض ليس فقط الإنسان، بل تشمل الحيوان والطبيعة أيضاً.. والرحمة التي كتبها الله على نفسه؛ مشروطة بأن نتبادل الرحمة فيما بيننا..
وقد تلا اللقاء حوار بين د. السماك والحضور..