كانت سياسة التفاوض مع العدو وانقلاب المسارات المهادنة بشكل أو بآخر تؤرقه وتسلبه الراحة، وهو لا يبيت في بيته إلا أياماً، بينما كانت والدته تبحث عنه في المواقع وتردّه ليلأ إلى حضنها الدافئ
قال ذات يوم فرانز فانون (1925) وهو طبيب نفسانيّ وفيلسوف اجتماعي أسود، من المارتنيك ومناضل ضد الاحتلال الفرنسي: "إن الجهد الذي يبذله البشر من أجل اقتناص الذات والتدقيق في عناصرها، وكذلك التوتر الدائم الذي تسببه لهم حريتهم، هما العاملان اللّذان من خلالهما يتمكنون من خلق الظروف المثالية في عالم إنساني".
زينب الطحان/ موقع المنار
في كل منا ذات تحرّضه دوما على اكتشاف هويته وتحديد انتمائه، وقد تكون عملية معقدة عند العديد من البشر الذين يعدّون أقليات، وعلى وجه الأخص – إذا كانت تعاني اضطهادا تاريخاً تصطدم به جيلا بعد جيل.
والتمكن لخلق ظروف مثالية في عالم إنساني هو طموح مشروع لكل بني البشر، كان الشاب عماد مغنية "ساحر المقاومة" وفي حركة بحثه عن انتماء محدد في أثناء تنقله بين التنظميات التي كانت موجودة على الساحة اللبنانية في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، شاقة ومضنية بالنسبة إلى ابن طائفة كانت تعاني الحرمان والتهميش والاضطهاد طوال قرون.
قرأ الشيوعية والماركسية وغيرها واختلط مع رجالات منها واقترب من الكبار وعايشهم، وشاركهم تجاربهم القيادية والعسكرية. إلا إن روحه لم تطمئن وذاته لم تهدأ، فهو يبحث عن انتماء أكثر تحديداً وقرباً من ثقافة كان يربيه عليها والداه "الإسلام".
ولكن في تلك الحقبة الزمنية من الانكسار العربي أمام "الجيش الذي لا يقهر" (الإسرائيلي) كانت الثقافات الأخرى الأصلانية في مواطنها تهزمها عملقة الثقافة الإمبريالية في مرحلتها المنتصرة والتي لم تشأ للشعوب المستعمرة والمستلبة إلا أن تعيش الريبة والشك والقلق إزاء هوياتها المحلية، وتخضع ببساطة للتدميج والاشتمال ثقافة وتاريخا، وأرضاً وكل شيء أخر، كانت المعضلة أمام "مغنية" القادم من الطبقة الفقيرة التي تقاوم التدميج والاستلاب بمفردات متواضعة من الفهم الشمولي للإيديولوجية الإسلامية يدرك في أعماقه أن ما يريده هو مغاير عن كل هذه السردية التي تُغرق أطيافاً هائلة من البشر..
لم يرد أن يكون فرداً منهم، أراد نفسه متمايزاً، لأنه لم يقدر على تقبّل فكرة الإمبريالية، سواء كانت استعماراً مباشراً للأرض، أو استلاباً ثقافياً ومعرفياً للعقلية العربية وتدميراً منهجياً للفكر الإسلامي، فارضا عليهما التقهقهر إلى الوراء دوماً.. كانت سياسة التفاوض مع العدو وانقلاب المسارات المهادنة بشكل أو بآخر تؤرقه وتسلبه الراحة، وهو لا يبيت في بيته إلا أياماً، بينما كانت والدته تبحث عنه في المواقع وتردّه ليلأ إلى حضنها الدافئ.. دفء أمومي كان يُسري في عروقه عشق الهجرة إلى الأصل والعودة إلى الجذور..
وكانت بداية الاتصال بـ"ثقافة المقاومة الإسلامية" التي حملتها راية الانتصار التاريخي لثورة المسلمين في إيران .. فاستشعر معها ذلك الدفء الأمومي و"الأصلاني"، وكانت عملية اقتناص الذات والتدقيق في عناصرها، وبدأ معه التوتر الدائم المنشغل بفتح باب الحرية .. الحرية المنفلتة من عمليات التزوير والتشويه لحقائق التاريخ.. الحرية الساطعة بكرامة الفرد والإنسانية والمتحررة من شروط الإمبريالية وثقافتها الهجينة .. الحرية السيادية أفقياً وعامودياً تعيد بناء الهوية الأصلية وترفع عنها ترسبات الإذلال والدونية وترتقي بها إلى الجذور الإسلامية السامية .. ولم يقتنع بكل هذا وهو الشاب العنيد والمناضل والمثقف العضوي – على طريقة غرامشي – إلا لأن الثورة الإسلامية الإيرانية حدّثت نفسها كي تنافس الغرب لتكون قادرة على التحدي.
كان الإسلام الحداثي مع التجربة الثورية في إيران، عادت بالشعب إلى التمسك بالتراث العريق من جهة وإعادة تأويل النص الشرعي ليحقق حضورا متمايزاً عن الأوروبي والأميركي والشرقي عموماً (لا شرقية ولا غربية) من جهة أحرى. وكانت أعمال مفكرين ومثقفين وعلماء وفي مقدمهم الإمام الخميني، وأمثال علي شريعتي وجلال علي أحمد والشهيد مطهري والسيد علي الخامنئي .. مهّدوا الطريق بوساطة حركة تغييرية كبرى بوساطة الخطب والكتب وأشرطة التسجيل والكتيبيات والمحاضرات والمظاهرات والعصيان المدني للثورة الإسلامية تؤول الاستعمار بتأكيد التعارض المطلق بينه وبين الثقافة الأصلانية.
كل هذا الصدى وصل إلى المناضل عماد مغنية، فوجد فيه ضالته، والتحمت الأرواح، وتأكد انتماء الذات، وكُتب الشكل المتجدد للهوية الإسلامية تأصيلاً وسلوكاً .. وأضحى الخيار أمامه واضحاً .. وارتقى إلى مرجع أصيل يؤطر انتماءه في وحدة متناغمة.. فعندما يحدد الفرد هويته، أي حدّه الوجودي المتمايز عن الآخر، فإنه يعود الى انتمائه المرجعي لكي يبنى نظرته الى ذاته وإلى الآخر؛ إذ من دون الانتماء المرجعي لا تتوافر له النظرة العامة إلى الإنسان والمجتمع والكون.
فإن الجماعة حين تحدد هويتها ترتكز على انتماء مرجعي تبنى من خلاله نظرتها إلى ذاتها الجمعية، وإلى الجماعات الأخرى. لكنّ الذات الجمعية لا تعادل النحن إلا إذا تأسست على المشترك بين مكونات الجماعة. أو بمعنى آخر، إن هوية الجماعة تتأسس على المشترك ولا تكون إلا به، مثلما يتأسس عليه الانتماء المرجعي للفرد. لكن بعد أن يتميز أو يتفرد على أساسه، أي بعد أن يبني حدّه الوجود المتمايز عن فرد آخر قد تمايز بدوره في وجوده عنه على أساس المشترك ذاته.
من هذا المنطلق غدت الهوية الإسلامية وما تحمله من ثقافة مقاومة غير مساومة لنير الاستعمار والإمبريالية هي الخط الأوضح عند عماد مغنية، فانقلب عالمه وتحوّل من "مناضل" في زمن الانكسار والهزيمة إلى "مجاهد" في زمن ثقافة مقاومة لا تهدر حقها في الوجود والتشبث بالأرض والهوية والانتماء بعيدا عن التبعية لإمبريالية مدّمرة جوهرَ إنسانية من تصفهم بالعالم الثالث.. وتبني لهم سرديات مهزومة قاتلة لكل أمل بالتقدم والانفلات من قبضة الاستعباد الغربي..
"ساحر المقاومة" القائد الكبير الشهيد عماد مغنية، حفر عميقاً مع أصحابه ورفاقه درباً جديداً من المقاومة، التي انطلقت في العام 1982، وراحت تتدرج من فتاة يافعة إلى صبية رائعة الجمال والكمال، حتى أضحت امرأة كاملة الأوصاف يعشقها الثائرون والباحثون عن الحرية التي تضرج بالدماء الحمراء وترسم خطوطها أعمار الأجيال ..
وعندما قال لابنه الشهيد جهاد وهما واقفان عند تلة في بلدة جنوبية من لبنان مشيراً له : "من هنا سنعبر إلى فلسطين" *.. كان يدرك تماماً أن روح التأصيل للانتماء إلى هوية إسلامية متمايزة، قد حُفرت عميقاً في الجيل الحالي ..ومتأكداً تماماً أن ولده سيكمل من بعده الدرب إلى فلسطين ..فلسطين التي تردّنا إلى أصالة الهوية العربية وعمق الانتماء الإسلامي ..وأخيراً تمكّن من خلق ظروف مثالية في عالم إنساني ..
* قصة رواها أحد المجاهدين كان صديقاً للشهيد جهاد مغنية.