استنفرت قوى الهيمنة الدولية كل ما تملك لمواجهة مشروع التحرر والنهوض العربي، وبدأت باختبار كل أدواتها من أول خريطة سايكس ـــ بيكو في الشام والعراق، إلى الدول العائلية في الخليج
(1)
في كل عام، عندما تمر ذكرى ميلاد «الجمهورية العربية المتحدة»، تعود بي الذاكرة إلى الأيام التي كانت زاخرة بالأحلام. نعم، كانت أياماً صعبة، لكن المواجهة كانت مكشوفة بين من كانوا يحملون مشروعاً لتحرير الأمة ورفع اليد عن مقدراتها والنهوض بها على ما بينهم من اختلافات، وما يعتريهم من قصور واختراقات، وبين أعداء الأمة على ما بينهم من اختلافات حول التحاصص في تقاسم الغنائم، وما يمتلكون من عناصر قوة.
وبرغم ذلك، فقد كانت المعركة تبدو، خصوصاً في النصف الثاني من خمسينيات القرن المنصرم، كأنها متكافئة. بدا في فترة من الفترات، أن مشروع التحرر والنهوض العربي يتقدم، وأن مشاريع السيطرة الاستعمارية تتقهقر.
لقد كان الاندفاع والحماس في أوجه حيث بدأ الحديث عن الخليج الثائر والمحيط الهادر. وبدا، أنه لم يعد أمام الاستعمار إلا أن يحمل عصاه ويرحل، وقد توجت تلك المرحلة بقيام «الجمهورية العربية المتحدة» في 22 شباط 1958، وكان الحلم أن تلك الجمهورية مجرد خطوة على الطريق إلى الوحدة الشاملة بين المحيط والخليج...
لكن تبين في ما بعد أن الحماسة والنوايا الحسنة لا تكفي لمواجهة مخططات قوى بالغة التنظيم، وأن الاستثمار الأجنبي في الوطن العربي له امتداداته وعناصر قوته. فقد استنفرت قوى الهيمنة الدولية كل ما تملك لمواجهة مشروع التحرر والنهوض العربي، وبدأت باختبار كل أدواتها من أول خريطة سايكس ـــ بيكو في الشام والعراق، إلى الدول العائلية في الخليج، والتقسيمات الشائهة في وادي النيل والمغرب العربي، إلى آخر المستعمرات الصهيونية في فلسطين، إضافة إلى القواعد العسكرية الأجنبية والجيوش الاستعمارية التي كانت تسيطر على العديد من البقاع العربية بشكل مباشر.
لهذا، وبعد تلقي الصدمة المستولدة عن قيام الجمهورية العربية المتحدة، بدأت القوى المعادية بتجييش قواها لوقف المد الوحدوي، أولاً عبر إجهاض ثورة العراق 1958 ومنع انضمامها إلى العربية المتحدة، ومن ثم محاصرة دولة الوحدة وكسر نموذجها، وهو ما حصل أخيراً بانفصال الإقليم الشمالي في 28 أيلول 1961.
(2)
بانفصال الإقليم الشمالي عن الجمهورية العربية المتحدة، انتقل مشروع التحرر والنهوض العربي من حالة الهجوم إلى الدفاع، ومن التقدم إلى الانكفاء. فحتى محاولة الرد على الانفصال بالاندفاع نحو اليمن تحولت إلى ورطة. وحتى الانقلابات العسكرية التي حدثت في العراق وسوريا والجزائر في النصف الأول من ستينيات القرن الماضي، والتي صنفت «انقلابات تقدمية» ورداً على الانفصال، تحولت إلى عبء إضافي، وأثارت صراعات مدمرة داخل ما كان يُعرف بـ «القوى التقدمية العربية»؛ وقد نتج عن ذلك نشوء عصبويات إقليمية جديدة، هددت بشكل خطير النسيج الوطني في الأجزاء.
وقد تراكم كل ذلك مع هزيمة الخامس من حزيران 1967، ورحيل رئيس الجمهورية العربية المتحدة جمال عبد الناصر، وأدى في ختام المطاف إلى انقلاب السلطة الشمولية في مصر على ما تبقى من الجمهورية العربية المتحدة في الإقليم الجنوبي. فألغى الانقلابيون إسم الجمهورية المتحدة، وحوّلوا الإقليم الجنوبي من قاعدة لمشروع التحرر والنهوض العربي إلى قاعدة للاختراق الصهيوني، فتم رفع علم «إسرائيل» وسط القاهرة، وما زال حتى هذه اللحظة يرفرف.
لعل السؤال الذي يتردد علينا منذ نصف قرن يتصل بانحسار مشروع التحرر والنهوض العربي. أين كان الخطأ؟ وأين كانت الخطايا؟ والأهم، لماذا لم يتمكن حملة راية الثورة والتقدم العربي، أو من تبقى منهم من تدارك الأمر، واستئناف مسيرة التحرر والنهوض؟ هل المشكلة ذاتية أم موضوعية؟ هل هي بالمشروع ذاته؟ أم بالظروف المحيطة؟
وإذا كان يفترض أن يكون كلامنا احتفالياً بمناسبة هذه الذكرى، إلا أن حالة الحصار التي تطبق على الأمة، تفرض طرح الأسئلة وتلح على إيجاد أجوبة. ولعل اساس المشكلة يتمثل في أن القوميين العرب انصرفوا عن ترتيب بيتهم الداخلي وأنكروا المشكلات التي يعانون منها، وكابروا في معالجة العيوب التي تفاقمت في صفوفهم، وأخذوا يحملون مسؤولية هزائمهم وانكساراتم للاستعمار والرجعية حصراً، واكتفوا بالشتم ولم يعملوا على إيجاد الحلول لمشكلاتهم وتنظيم صفوفهم، بل باتوا أسرى خطاب المؤامرة والاستلاب التام.
لقد ترتب على العدوان المتعدد الجنسيات تحول الهوية العربية إلى تهمة وشوفينية، فتهتك النسيج العربي، وتحولنا من مواطنين في الأجزاء وفي الكل العربي إلى أقليات عصبوية متوحشة. وباتت الأقليات تطالب بحق تقرير المصير والاستقلال في هذه البقعة أو تلك. وغاب العرب عن المشهد كفاعلين، حتى خرجوا من التاريخ.
(3)
لا أجد اليوم من أخاطبه في عيد ميلاد «الجمهورية العربية المتحدة» إلاّ الجيل العربي الجديد الذي جدّد الحلم بـ «الربيع العربي» في مواجهة الطغاة والغزاة لعله يستعيد المبادرة لتصويب المسار. فما يشاهده أبناء هذا الجيل من خراب هذه الأيام ليس وليد اللحظة، إنما هو وليد عقود من الخيبات التي عانى منها جيلنا الهرم. الآن، وفي مرحلة الهجوم والاختراق والانقلاب على «الربيع العربي»، وبعدما بات الدفاع عن النظام الإقليمي وفساده ومافياته مستحيلاً، يشهر البعض سلاحه الاحتياطي، «دول» الأقليات المذهبية والإثنية والطائفية والجهوية.
ومرة أخرى، لا وجود للعرب، ولو كأقلية. فدعونا نعترف أننا كعرب الآن، أقل الأقليات شأناً، فجميع تلك الأقليات لها هيئاتها التمثيلية وميليشياتها المسلحة وصحفها وإذاعاتها وتلفزيوناتها ومصادرها المالية والاقتصادية وعلاقاتها الدولية، إلا «الأقلية العربية» لا صوت لها، ولا من يمثلها، ولا من يطالب بحقوقها.
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه