بينما تدور المعارك الطاحنة في الريف القريب، يبدو معظم أبناء المدينة منشغلين عن تتبّع أخبار المعارك. دوافعهم إلى ذلك كثيرة، من بينها أن أخبار الموت
صهيب عنجريني
بينما تدور المعارك الطاحنة في الريف القريب، يبدو معظم أبناء المدينة منشغلين عن تتبّع أخبار المعارك. دوافعهم إلى ذلك كثيرة، من بينها أن أخبار الموت الذي تخلفه القذائف حولَهم تبدو أكثر صدقاً. وسط هذا الموت تستمر المدينة في ابتكار وسائل لتحيا تناقضات الحرب.
كانَ المثَل الحلبي يقول «إذا بدّك تشوف العجب، جيب البحر لحلب». اليوم، يبدو ذهابُك إلى حلب كافياً لرؤية العجب. تبدو المدينة مزيجاً غريباً من تناقضات لا رابط بينها سوى الحرب. أبناؤها ما زالوا قادرينَ على ابتكار أساليب ووسائل للتكيّف مع الموت المحيط بهم. اليأس والقهر حاضران بقوّة، لكنّهما مغلّفان بلامبالاة ساخرة، صادقة حيناً، ومُفتعلةٍ أحياناً. أما «الأمل» فهو الغائب شبه الوحيد عن مدينة تبدو كأنّها نذرت نفسها للعيش في ظل الحرب إلى الأبد.
الوصول إلى حلب في اليوم الثاني لاشتعال المعارك الأخيرة في ريفها الشمالي لا يختلف عن الوصول إليها في أيام أخرى. وخلافاً لما كنّا نظنّ، فإن أخبار المعارك ليست كثيرة التداول هنا. الموتُ باتَ تفصيلاً يوميّاً يتعامل الجميع معه على أنّه «التفصيل الأصدق»، وكل أخبار ترتبط بما سواه هي أخبار كاذبةٌ حتى يثبت العكس. على طاولة في مقهى شعبي افتُتح قبل شهرين (افتتاح المقاهي والمطاعم في معظم مناطق سيطرة الدولة حدثٌ مألوف ومستمر) يتوقف أحمد وأصدقاؤه عن لعب الشّدة (الورق) قليلاً. يختصر الرجلُ الخمسيني الإجابة عن أسئلتنا الكثيرة بجُمل قصيرة ومتلاحقة: «كل شي بيقلك تحسّن وضع الكهربا، كذّاب. رخص البنزين، كذّاب. عم يطوقو حلب، كذّاب. بس حدا يقلك مات فلان، صدّق وقول: الله يرحمو». معتز، صاحب المقهى، يُبرّر الأمر بأنّ «النّاس باتوا يخشون أن يصدقوا شيئاً». ويضيف: «تأمّل الشاشات من حولك، لم نعد نستخدم التلفاز في المقهى، لا أحدَ يريدُ ذلك. الزبائن تطالب بالأغاني وحسب».
وبالفعل، وحدها أنباء أسطوانات الغاز المتفجرة (مدفع جهنّم) وقذائف الهاون تبدو متداولة، لأنّها لا تحتاج إلى مصدر. الناس هم المصدر، وكأنَ لسان حال كلّ منهم يقول «أنا الذي رأى». في اليوم التالي كنّا شهوداً على «هبّة جنون» طاولت حي الجميليّة الدائم الازدحام. خمس قذائف خلال ساعة واحدة لم تُغيّر شيئاً من اكتظاظ الحي الكبير الذي باتَ أشبهَ بـ«سوق وسط البلد». يضحكُ بائع الأحذية أبو حسن: «لماذا أغلق المحل؟ كما ترى، الزبائن لم يتوقفوا عن السؤال. إنّهم ييحثون عن الأرخص، وهذا حقّهم.
صحيح أن الذين يشترون قلّة، لكن لم يغادر السوق أحد». قبل عامٍ واحد عاد أبو حسن من تركيّا: «ذهبت بحثاً عن عمل بعد أن ضاقت الحال هنا» يقول. خسر الرجلُ مصنعاً صغيراً لإنتاج البلاستيك، ومنزلين. ترك ذلك وراءه في الأحياء الشرقيّة مع بدء استعار الحرب، وانتقلَ إلى منزلٍ استأجره في حي الحمدانيّة. مثل كثيرين كان يظنّ الأمر مؤقتاً، ومع نفاد مدّخراته سافر إلى تركيا. «ما رحت لأبرك بالمخيم، رحت أدور عشغل. ما طوّلت كتير، الحلبي برّة (خارج) حلب متل السمك برّة المي».
لا فوارق اجتماعية
حال أبو حسن مثل كثيرٍ سواه. بعد عامين من الحرب، لم تبقَ سوى نسبة ضئيلة تمارس أعمالها السابقة. معظم الناس بحثوا عن «باب رزق جديد»، منهم من وجده خارج المدينة، ومنهم من أصرّ على إيجاده هنا. لم تترك المستجدات فوارقَ طبقيّة كبيرة بين البشر. سِمة الغنى التي كانت تميز سكّان بعض الأحياء انعدمَت. عائلات كثيرة غادرت منازلها في «الأحياء الراقية» وعرضت تلك المنازل للإيجار، لتتحول سكناً لعائلات من مختلف المشارب. اللافتُ أنَ أسعار الإيجارات في الأحياء الخاضعة لسلطة الدولة السورية ارتفعت شأنَها شأن الأسعار في المحافظات الأخرى (الآمنة نسبيّاً). ولن يكونَ مفاجئاً أن تسمعَ عن أحد استأجرَ منزلاً مفروشاً بمبلغ خمسين أو ستين ألف ليرة سورية (200 – 250 دولاراً) في منطقة معرضة لخطر القذائف دائماً، وهو المبلغ الذي يوازي إيجار شقة في طرطوس أو اللاذقية، أو حتى بعض أحياء دمشق.
المقاهي مقامات
لم يعُد المثل الشعبي «الناس مقامات» صالحاً للتداول. رغم ذلك، يمكن تقسيم المقاهي تبعاً لطبيعة مرتاديها. ثمّة مقاهٍ يطغى اللباس العسكري فيها، من دون أن يعني ذلك بالضرورة أن روّادها مقاتلون. في واحد من تلك المقاهي تتعاملُ العيون معنا بفضولٍ وتوجسٍ كبيرَين. يصرّ عمّال المقهى على الدوران حول الطاولة متذرّعين بحجج كثيرة، وساعين إلى استراق السمع إلى الحديث الدائر، أو النظر إلى شاشة «اللابتوب». يضحكُ جليسُنا المهندسُ: «قلت لكم، هذا مقهى للشبيحة، وكلهم يعرفون بعضَهم». في الوقت نفسه يُحذرنا الرجل من ارتياد «المقهى الفلاني». يقول: «هداك مقهى الخونة، هيك بيسمّوه». يقعُ المقهى المذكور في منطقة أخرى، وما زالَ مقصداً لبقايا «المعارضة اليساريّة». وستكون مجالسة عدد قليل ممّن تبقى من هؤلاء أشبَه بركوب «آلة الزمن» للعودة سنوات إلى الوراء. لا يحضرُ حديث الحرب على الطاولة، ولا مستجداتُ الأزمة. تبدو الأحاديث المتداولة بين هؤلاء غريبةً، وكأنّ ما يدور في البلاد لم يبلغ مسامعهم بعد. يُطلق أحدُهم نكتةً تحملُ تلميحاً سياسيّاً بصوت هامس، فينفجرُ البقيةُ ضاحكين، قبلَ أن يعود الجميع إلى تبادل نكاتٍ «جنسيّة» بصوت مرتفع. بينما تحضر بشكل متقطع أحاديث تتعلقُ بالبروليتاريا، والكوسموبوليتية، والشعبويّة! فيما يكادُ سؤال أحدهم «جد صار السفر علبنان بدّو فيزا؟» أن يكون الجملة الوحيدة التي تلامس الراهن.
تحسّن خدمي طفيف
تغيّر الواقع الخدمي قليلاً في حلب. أبرز التغيرات اللافتة تتعلّق بالنظافة. معظم شوارع الأحياء الغربيّة تبدو نظيفة. لا أوساخ متناثرة، والحاويات تُفرّغ بانتظام. ورغم أنّ الفساد والانتفاع حاضران بقوّة، لكنّ عمليات توزيع أسطوانات الغاز المنزلي عبر مخاتير ولجان الأحياء تبدو مجدية. وحتى من لا يستطيع الحصول على أسطوانة بهذه الطريقة، يُمكنه أن يشتريها من السوق السوداء بسعر أقلّ بكثير ممّا كانت الحالُ عليه قبل أشهر. أما توزيع المازوت فيبدو أقلّ جدوى، في ظل بطء عملية التوزيع، وقلّة الكمية التي توزع للعائلة الواحدة (100 ليتر سنوياً). التيار الكهربائي بات من المنسيّات تقريباً، إذ تقتصر تغذية معظم الأحياء على ساعة يوميّاً، وغالباً ما تكونُ في الفجر، أو الصباح الباكر. وخلال أيام قليلة ستسمع عشرات المرات تندّر السكّان بشأن تصريحاتٍ كان وزير الكهرباء قد أطلقها منذ فترة، مفادُها «السعي إلى رفع فترات التغذية الكهربائية لتصبح أكثر من ساعة يوميّاً».
http://www.al-akhbar.com/node/226934
موقع المنار غير مسؤول عن النص وهو يعبّر عن وجهة نظر كاتبه