تتحضّر السياسات الأميركية الكبرى لمرحلة ما بعد مفاوضات «النووي الإيراني»، فتتدبّر أشكالاً مستجدة لحلفائها تلائم التعامل مع نتائج هذا الملفّ في حالتي الفشل أو النجاح
د. وفيق ابراهيم
تتحضّر السياسات الأميركية الكبرى لمرحلة ما بعد مفاوضات «النووي الإيراني»، فتتدبّر أشكالاً مستجدة لحلفائها تلائم التعامل مع نتائج هذا الملفّ في حالتي الفشل أو النجاح.
ولا بدّ من التذكير بأنّ الولايات المتحدة لا تبرم اتفاقات إلا بمواكبة مصالح قواها الاقتصادية، وهذا أمر طبيعي في تطور أمبراطوريتها «المعولمة»، أما الحلفاء فهم بيادق في شطرنج المجابهات، مع مراعاة شكلية لاهتماماتهم.
تتوالى في هذا الصدد، ومنذ عدة أشهر، جملة مؤشرات تتضمن خطط البيت الأبيض وبدائله، ومنها زيارات أمير قطر تميم بن حمد إلى واشنطن والرياض وأنقرة، وترفدها تصريحات الرئيس الأميركي باراك أوباما التي عاد فيها إلى نفحات حول ضرورة الإطاحة بالرئيس السوري بشار الأسد، معتبراً أنّ النظام السوري ليس جزءاً من الحلّ، تصريحات ترمي إلى امتصاص توتر الحلفاء في تركيا والسعودية و«إسرائيل».
أما المؤشر الفاقع فيتعلق باستقبال وفد من «الإخوان المسلمين» في واشنطن، في وقت تضع فيه مصر «الإخوان» على لائحة الإرهاب وتطاردهم في كلّ مكان، وهناك أيضاً غزل سعودي ـ تركي ينتظر أن يتوّج في القريب العاجل بزيارة الرئيس أردوغان إلى الرياض.
ولإرضاء «إسرائيل» ونزع مقدار من غضبها على سياسات أوباما، جرى تزويدها بمقاتلات قاذفة من نوع ف ـ 35 أميركية، لا نظير لها في العالم، في وقت تمنع فيه أميركا السلاح البدائي عن العراق ومصر ولبنان.
تندرج هذه المؤشرات في إطار تهيئة حلف متناسق، برعاية واشنطن، يضمُّ السعودية ودول خليجية أخرى وتركيا والأردن والإخوان المسلمين، يقوم على أساسين: سياسي معاد للحلف الروسي ـ الصيني ـ الإيراني، وأيديولوجي يستعمل الإسلام كالعادة معتمداً على «الإخوان» وجبهة «النصرة»، في إطار تشكيل عسكري إرهابي جديد يكون بديلاً من «القاعدة» و«داعش».
ولهذا الحلف مهمتان: جذب مصر علناً و«إسرائيل» حسب مقتضيات المراحل. وبالنسبة إلى مصر فإنّ في الإمكان استخدام المعونات الخارجية والقروض لتطويق اهتماماتها في المغرب العربي والشرق الأوسط. أما «إسرائيل» فهي تقرُّ بصعوبة دمجها، في شكل علني، في حلف إسلامي الطابع، إلا إذا عثر «فقهاء» آل سعود على إسنادات تبيح اللجوء إلى هذه المحظورات.
إنّ العقبة الوحيدة دون إعلان هذا الحلف موجودة في العلاقات السيئة بين «الإخوان» وكلّ من السعودية ومصر، وهذا ما يجري تذليله في هذه المرحلة على قاعدة مجابهة «الأكثر خطورة»، أي إيران وروسيا، وإرجاء المسائل الأخرى الأقلّ خطورة مع تخفيف جرعات اللجوء إلى المفهوم الإسلامي «للشورى»، التي تقوم عادة على استبعاد التوريث السياسي، وهذه مسألة حاسمة لدى آل سعود فهؤلاء يصرّون على سماع بيانات علنية لـ«الإخوان» تعلن ولاءهم للأنظمة السياسية في القاهرة والرياض.
إنّ تقليص هذه الخلافات، من شأنه استيلاد «حلف بغداد جديد» يتكون من مصر وتركيا والسعودية والأردن والخليج، يتمتع بالقوى الاقتصادية والسياسية ـ الدينية، ويؤدي دور الهراوة الأميركية الساحقة في وجه المعارضين.
هذا جانب مما تحضره واشنطن، لكن لديها جوانب أخرى تهيئ لها الظروف المناسبة لتحققها في حال التوصل إلى اتفاق مع الإيرانيين حول الملف النووي ومع الروس حول أزمة أوكرانيا.
البداية مع هندرسون مسؤول برنامج الطاقة في معهد واشنطن الذي أعلن أنّ إيران لا تخصِّب أكثر 5 في المئة وهي كميات لا تنتج قنابل نووية، وصدرت تسريبات عن جهاز الاستخبارات الإسرائيلي «موساد» تؤيد هذا الكلام وهي تسريبات ليست بريئة في هذا الوقت بالذات، ويعزوها بعض المراقبين إلى حركة أميركية سريعة للاقتصاص من رئيس الوزراء «الإسرائيلي» بنيامين نتنياهو وتقييد حركته، كما أنّ وكالة الطاقة الدولية وافقت على أنّ طهران لا تخصِّب أكثر من الكمية المذكورة.
إنّ زيارة نواب فرنسيين ينتمون إلى الأحزاب الحاكمة والمعارضة في البرلمان الفرنسي إلى دمشق ولقائهم الرئيس بشار الأسد، ليست «نخوة عرب» لأنّ الحركات السياسية في الغرب هادفة دائماً، لا سيما أنّ سياسة باريس تجاه سورية تقوم على إجماع داخلي يزعم أنّ الأسد لم يعد شرعياً. فكيف حصلت هذه الزيارة؟
أما الأكثر غرابة، فهو الصمت الأميركي عن تحرك أنصار الله الحوثيين في اليمن والتغاضي عن سيطرتهم على العاصمة صنعاء، وقد انتظرت واشنطن حتى انتهاء مفاوضات وزير خارجيتها مع نظيره الإيراني كي تنتقد هيمنة الحوثيين على اليمن. ألا يتنبه العرب إلى أنّ أميركا لا تسيطر على المناطق إلا من خلال نصب مرتكزات أزمات مختلفة، وما تفعله في الشرق الأوسط هو تأسيس لنزاعات مختلفة، تستفيد منها وتترك لحلفائها أوهام نصر من سراب؟
لا يعني هذا الكلام أنّ المنطقة «سائبة» كـ»كاوبوي الأميركي» ردّ الحلف الآخر بأضخم مناورات بحرية يشهدها الشرق الأوسط، قامت بها إيران في الخليج وعبر الحوثيين أيضاً الذين يواصلون تحرير اليمن من الهيمنة السعودية، وفي أوكرانيا حيث نجح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في التأسيس لاتحاد كونفدرالي تعبّر فيه الأقليات الروسية عن استقلاليتها الوطنية.
كما أرسل الحلف الروسي ـ الإيراني ـ السوري رسائل بالغة الدلالة عبر الاختراقات الكبرى للجيش السوري في الشمال والجنوب، فيما يشبه المنازلة مع الأدوار التركية و«الإسرائيلية» والأردنية في الأزمة سورية التي لا تزال مستمرة.
هناك إذاً تحضيرات لمرحلة ما بعد مفاوضات النووي الإيراني، فإذا تمّ الاتفاق لن تتأخر واشنطن في إثارة الخلافات بين حلفائها لتمريره بأقلّ قدر ممكن من الاعتراضات، أما في حالة فشلها فإنّ البيت الأبيض ذاهب في اتجاه لملمة حلفائه وإعادة هندستهم في إطار حلف إسلامي ـ يهودي لمجابهة الصعود الروسي ـ الإيراني ـ الصيني، مشابه لما فعلته واشنطن في الشرق الأوسط في ستينات القرن الفائت في وجه صعود الاتحاد السوفياتي.
البراكني إذاً تستعر، لكنّ المنتصر الفعلي لن يكون إلا أهل المنطقة أصحاب المصلحة الفعلية في التغيير. والأيام دولٌ وشواهد…
http://www.al-binaa.com/?article=29932
موقع المنار غير مسؤول عن النص وهو يعبّر عن وجهة نظر كاتبه